الرئيسية منتديات مجلس الفقه والإيمان احاديث نبويه شريفه

مشاهدة 15 مشاركة - 1 إلى 15 (من مجموع 23)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #302370
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏الحميدي عبد الله بن الزبير ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏سفيان ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏يحيى بن سعيد الأنصاري ‏ ‏قال أخبرني ‏ ‏محمد بن إبراهيم التيمي ‏ ‏أنه سمع ‏ ‏علقمة بن وقاص الليثي ‏ ‏يقول سمعت ‏ ‏عمر بن الخطاب ‏ ‏رضي الله عنه ‏ ‏على المنبر ‏
    ‏قال سمعت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول ‏ ‏إنما الأعمال ‏ ‏بالنيات ‏ ‏وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا ‏ ‏يصيبها ‏ ‏أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ‏
      

    قوله : ( حدثنا الحميدي ) ‏
    ‏هو أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى , منسوب إلى حميد بن أسامة بطن من بني أسد بن عبد العزى بن قصي رهط خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم , يجتمع معها في أسد ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي . وهو إمام كبير مصنف , رافق الشافعي في الطلب عن ابن عيينة وطبقته وأخذ عنه الفقه ورحل معه إلى مصر , ورجع بعد وفاته إلى مكة إلى أن مات بها سنة تسع عشرة ومائتين . فكأن البخاري امتثل قوله صلى الله عليه وسلم قدموا قريشا فافتتح كتابه بالرواية عن الحميدي لكونه أفقه قرشي أخذ عنه . وله مناسبة أخرى لأنه مكي كشيخه فناسب أن يذكر في أول ترجمة بدء الوحي لأن ابتداءه كان بمكة , ومن ثم ثنى بالرواية عن مالك لأنه شيخ أهل المدينة وهي تالية لمكة في نزول الوحي وفي جميع الفضل , ومالك وابن عيينة قرينان , قال الشافعي : لولاهما لذهب العلم من الحجاز . ‏

    ‏قوله : ( حدثنا سفيان ) ‏
    ‏هو ابن عيينة بن أبي عمران الهلالي أبو محمد المكي , أصله ومولده الكوفة , وقد شارك مالكا في كثير من شيوخه وعاش بعده عشرين سنة , وكان يذكر أنه سمع من سبعين من التابعين . ‏

    ‏قوله : ( عن يحيى بن سعيد ) ‏
    ‏في رواية غير أبي ذر : حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري . اسم جده قيس بن عمرو وهو صحابي , ويحيى من صغار التابعين , وشيخه محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي من أوساط التابعين , وشيخ محمد علقمة بن وقاص الليثي من كبارهم , ففي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق . وفي المعرفة لابن منده ما ظاهره أن علقمة صحابي , فلو ثبت لكان فيه تابعيان وصحابيان , وعلى رواية أبي ذر يكون قد اجتمع في هذا الإسناد أكثر الصيغ التي يستعملها المحدثون , وهي التحديث والإخبار والسماع والعنعنة والله أعلم . وقد اعترض على المصنف في إدخاله حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي وأنه لا تعلق له به أصلا , بحيث إن الخطابي في شرحه والإسماعيلي في مستخرجه أخرجاه قبل الترجمة لاعتقادهما أنه إنما أورده للتبرك به فقط , واستصوب أبو القاسم بن منده صنيع الإسماعيلي في ذلك , وقال ابن رشيد : لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف , وقد تكلفت مناسبته للترجمة , فقال : كل بحسب ما ظهر له . انتهى . وقد قيل : إنه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب ; لأن في سياقه أن عمر قاله على المنبر بمحضر الصحابة , فإذا صلح أن يكون في خطبة المنبر صلح أن يكون في خطبة الكتب . وحكى المهلب أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به حين قدم المدينة مهاجرا , فناسب إيراده في بدء الوحي ; لأن الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين , ويعقبه النصر والظفر والفتح انتهى . وهذا وجه حسن , إلا أنني لم أر ما ذكره – من كونه صلى الله عليه وسلم – خطب به أول ما هاجر – منقولا . وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية الحديث , ففي هذا إيماء إلى أنه كان في حال الخطبة , أما كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة فلم أر ما يدل عليه , ولعل قائله استند إلى ما روي في قصة مهاجر أم قيس , قال ابن دقيق العيد : نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس , فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوى به , انتهى . وهذا لو صح لم يستلزم البداءة بذكره أول الهجرة النبوية . وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد من منصور قال أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله – هو ابن مسعود – قال : من هاجر يبتغي شيئا فإنما له ذلك , هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له مهاجر أم قيس ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ : كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها , فكنا نسميه مهاجر أم قيس . وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين , لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك , ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك . وأيضا فلو أراد البخاري إقامته مقام الخطبة فقط أو الابتداء به تيمنا وترغيبا في الإخلاص لكان ساقه قبل الترجمة كما قال الإسماعيلي وغيره ونقل ابن بطال عن أبي عبد الله بن النجار قال : التبويب يتعلق بالآية والحديث معا ; لأن الله تعالى أوحى إلى الأنبياء ثم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات لقوله تعالى { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } . ‏
    ‏وقال أبو العالية في قوله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } قال وصاهم بالإخلاص في عبادته . وعن أبي عبد الملك البوني قال : مناسبة الحديث للترجمة أن بدء الوحي كان بالنية ; لأن الله تعالى فطر محمدا على التوحيد وبغض إليه الأوثان ووهب له أول أسباب النبوة وهي الرؤيا الصالحة , فلما رأى ذلك أخلص إلى الله في ذلك فكان يتعبد بغار حراء فقبل الله عمله وأتم له النعمة . وقال المهلب ما محصله : قصد البخاري الإخبار عن حال النبي صلى الله عليه وسلم في حال منشئه وأن الله بغض إليه الأوثان وحبب إليه خلال الخير ولزوم الوحدة فرارا من قرناء السوء , فلما لزم ذلك أعطاه الله على قدر نيته ووهب له النبوة كما يقال الفواتح عنوان الخواتم . ولخصه بنحو من هذا القاضي أبو بكر بن العربي . ‏
    ‏وقال ابن المنير في أول التراجم : كان مقدمة النبوة في حق النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الله تعالى بالخلوة في غار حراء فناسب الافتتاح بحديث الهجرة . ومن المناسبات البديعة الوجيزة ما تقدمت الإشارة إليه أن الكتاب لما كان موضوعا لجمع وحي السنة صدره ببدء الوحي , ولما كان الوحي لبيان الأعمال الشرعية صدره بحديث الأعمال , ومع هذه المناسبات لا يليق الجزم بأنه لا تعلق له بالترجمة أصلا . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث : قال أبو عبد الله : ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث . واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أنه ثلث الإسلام , ومنهم من قال ربعه , واختلفوا في تعيين الباقي . وقال ابن مهدي أيضا : يدخل في ثلاثين بابا من العلم , وقال الشافعي : يدخل في سبعين بابا , ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة . وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضا : ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب . ووجه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه , فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها ; لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها , ومن ثم ورد : نية المؤمن خير من عمله , فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين . وكلام الإمام أحمد يدل على أنه بكونه ثلث العلم أنه أراد أحد القواعد الثلاثة التي ترد إليها جميع الأحكام عنده , وهي هذا و من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد و الحلال بين والحرام بين الحديث . ثم إن هذا الحديث متفق على صحته أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ , ووهم من زعم أنه في الموطأ مغترا بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك , وقال أبو جعفر الطبري : قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردودا لكونه فردا ; لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة , ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد , وهو كما قال , فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد وتفرد به من فوقه وبذلك جزم الترمذي والنسائي والبزار وابن السكن وحمزة بن محمد الكناني , وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد , وهو كما قال لكن بقيدين : ‏
    ‏أحدهما : الصحة لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن منده وغيرهما . ‏
    ‏ثانيهما : السياق لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم يبعثون على نياتهم , وحديث ابن عباس ولكن جهاد ونية , وحديث أبي موسى من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله متفق عليهما , وحديث ابن مسعود رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته أخرجه أحمد , وحديث عبادة من غزا وهو لا ينوي إلا عقالا فله ما نوى أخرجه النسائي , إلى غير ذلك مما يتعسر حصره , وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر , إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل . نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد : فحكى محمد بن علي بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفسا , وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلثمائة , وروى أبو موسى المديني عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي قال : كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى . قلت : وأنا أستبعد صحة هذا , فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المائة , وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم , كما سيأتي مثال لذلك في الكلام على حديث ابن عمر في غسل الجمعة إن شاء الله تعالى . ‏

    ‏قوله : ( على المنبر ) ‏
    ‏بكسر الميم , واللام للعهد , أي منبر المسجد النبوي , ووقع في رواية حماد بن زيد عن يحيى في ترك الحيل : سمعت عمر يخطب . ‏

    ‏قوله : ( إنما الأعمال بالنيات ) ‏
    ‏كذا أورد هنا , وهو من مقابلة الجمع بالجمع , أي كل عمل بنيته . وقال الخوبي كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتقاء لوعيده . ووقع في معظم الروايات بإفراد النية , ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها . بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة فناسب جمعها ; ولأن النية ترجع إلى الإخلاص وهو واحد للواحد الذي لا شريك له . ووقعت في صحيح ابن حبان بلفظ الأعمال بالنيات بحذف إنما وجمع الأعمال والنيات , وهي ما وقع في كتاب الشهاب للقضاعي ووصله في مسنده كذلك , وأنكره أبو موسى المديني كما نقله النووي وأقره , وهو متعقب برواية ابن حبان , بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ الأعمال بالنية , وكذا في العتق من رواية الثوري , وفي الهجرة من رواية حماد بن زيد , ووقع عنده في النكاح بلفظ العمل بالنية بإفراد كل منهما . والنية بكسر النون وتشديد التحتانية على المشهور , وفي بعض اللغات بتخفيفها . قال الكرماني قوله إنما الأعمال بالنيات هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين , واختلف في وجه إفادته فقيل لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق , وهو مستلزم للقصر لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية , وقيل لأن إنما للحصر , وهل إفادتها له بالمنطوق أو بالمفهوم , أو تفيد الحصر بالوضع أو العرف , أو تفيده بالحقيقة أو بالمجاز ؟ ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا , بل نقله شيخنا شيخ الإسلام عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير كالآمدي , وعلى العكس من ذلك أهل العربية , واحتج بعضهم بأنها لو كانت للحصر لما حسن إنما قام زيد في جواب هل قام عمرو , أجيب بأنه يصح أنه يقع في مثل هذا الجواب ما قام إلا زيد وهي للحصر اتفاقا , وقيل : لو كانت للحصر لاستوى إنما قام زيد مع ما قام إلا زيد , ولا تردد في أن الثاني أقوى من الأول , وأجيب بأنه لا يلزم من هذه القوة نفي الحصر فقد يكون أحد اللفظين أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع كسوف والسين , وقد وقع استعمال إنما موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى ( إنما تجزون ما كنتم تعملون ) وكقوله : ( وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ) وقوله : ( إنما على رسولنا البلاغ المبين ) وقوله : ( ما على الرسول إلا البلاغ ) ومن شواهده قول الأعشى : ‏ ‏ولست بالأكثر منهم حصى ‏ ‏وإنما العزة للكاثر ‏ ‏يعني ما ثبتت العزة إلا لمن كان أكثر حصى . واختلفوا : هل هي بسيطة أو مركبة , فرجحوا الأول , وقد يرجح الثاني , ويجاب عما أورد عليه من قولهم إن إن للإثبات و ما للنفي فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد بأن يقال مثلا : أصلهما كان للإثبات والنفي , لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما بل أفادا شيئا آخر , أشار إلى ذلك الكرماني قال : وأما قول من قال إفادة هذا السياق للحصر من جهة أن فيه تأكيدا بعد تأكيد وهو المستفاد من إنما ومن الجمع , فتعقب بأنه من باب إيهام العكس ; لأن قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد ظن أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر . وقال ابن دقيق العيد : استدل على إفادة إنما للحصر بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث إنما الربا في النسيئة , وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم ولم يخالفوه في فهمه فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر . وتعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزلا . وأما من قال : يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله لا ربا إلا في النسيئة لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور , فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر , بل يقويه ويشعر بأن مفاد الصيغتين عندهم واحد , وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه . وأوضح من هذا حديث إنما الماء من الماء فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه , وإنما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث إذا التقى الختانان وقال ابن عطية : إنما لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع , ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه , فجعل وروده للحصر مجازا يحتاج إلى قرينة , وكلام غيره على العكس من ذلك وأن أصل ورودها للحصر , لكن قد يكون في شيء مخصوص كقوله تعالى ( إنما الله إله واحد ) فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية , وإلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم والقدرة , وكقوله تعالى ( إنما أنت منذر ) فإنه سيق باعتبار منكري الرسالة , وإلا فله صلى الله عليه وسلم صفات أخرى كالبشارة , إلى غير ذلك من الأمثلة . وهي – فيما يقال – السبب في قول من منع إفادتها للحصر مطلقا . ‏
    ‏( تكميل ) : ‏
    ‏الأعمال تقتضي عاملين , والتقدير : الأعمال الصادرة من المكلفين , وعلى هذا هل تخرج أعمال الكفار ؟ الظاهر الإخراج ; لأن المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصح من الكافر وإن كان مخاطبا بها معاقبا على تركها ولا يرد العتق والصدقة لأنهما بدليل آخر . ‏
    ‏قوله : ( بالنيات ) الباء للمصاحبة , ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في إيجاده , وعلى الأول فهي من نفس العمل فيشترط أن لا تتخلف عن أوله . قال النووي : النية القصد , وهي عزيمة القلب . وتعقبه الكرماني بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد . واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط ؟ والمرجح أن إيجادها ذكرا في أول العمل ركن , واستصحابها حكما بمعنى أن لا يأتي بمناف شرعا شرط . ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور , فقيل تعتبر وقيل تكمل وقيل تصح وقيل تحصل وقيل تستقر . قال الطيبي : كلام الشارع محمول على بيان الشرع ; لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان , فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع , فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي . وقال البيضاوي : النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا , والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه . والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر , فإنه تفصيل لما أجمل , والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية , إذ التقدير : لا عمل إلا بالنية , فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية , بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال , لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه ; ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح وعلى نفي الصفات بالتبع , فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة . وقال شيخنا شيخ الإسلام : الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية , لقوله في الحديث فمن كانت هجرته إلى آخره . وعلى هذا يقدر المحذوف كونا مطلقا من اسم فاعل أو فعل . ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان فتدخل الأقوال . قال ابن دقيق العيد : وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد , ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها . وأما التروك فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق عليها لفظ العمل . وقد تعقب على من يسمي القول عملا لكونه عمل اللسان , بأن من حلف لا يعمل عملا فقال قولا لا يحنث . وأجيب بأن مرجع اليمين إلى العرف , والقول لا يسمى عملا في العرف ولهذا يعطف عليه . والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازا , وكذا الفعل , لقوله تعالى ( ولو شاء ربك ما فعلوه ) بعد قوله : ( زخرف القول ) . وأما عمل القلب كالنية فلا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل , والمعرفة : وفي تناولها نظر , قال بعضهم : هو محال لأن النية قصد المنوي , وإنما يقصد المرء ما يعرف فيلزم أن يكون عارفا قبل المعرفة . وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله : إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم , وإن كان المراد النظر في الدليل فلا ; لأن كل ذي عقل يشعر مثلا بأن له من يدبره , فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالا . وقال ابن دقيق العيد : الذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال , والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال , ورجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى . وفي هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى باشتراط النية , وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل , وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها , ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء , وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا . نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل كما هو معروف في مبسوطات الفقه . ‏
    ‏( تكميل ) : ‏
    ‏الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير , والتقدير الأعمال بنياتها , وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلا صلاة أو غيرها , ومن كونها فرضا أو نفلا , ظهرا مثلا أو عصرا , مقصورة أو غير مقصورة وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد ؟ فيه بحث . والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين , كالمسافر مثلا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر , لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم . ‏

    ‏قوله : ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) ‏
    ‏قال القرطبي : فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال , فجنح إلى أنها مؤكدة , وقال غيره : بل تفيد غير ما أفادته الأولى ; لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها , فيترتب الحكم على ذلك , والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه وقال ابن دقيق العيد : الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئا يحصل له – يعني إذا عمله بشرائطه – أو حال دون عمله له ما يعذر شرعا بعدم عمله وكل ما لم ينوه لم يحصل له . ومراده بقوله ما لم ينوه أي لا خصوصا ولا عموما , أما إذا لم ينو شيئا مخصوصا لكن كانت هناك نية عامة تشمله فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء . ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى . وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلى الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها ; لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل , وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح ; لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيم فلا بد فيه من القصد إليه , بخلاف تحية المسجد والله أعلم . وقال النووي : أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهرا مثلا أو عصرا , ولا يخفى أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة . وقال ابن السمعاني في أماليه : أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القربة , كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة . وقال غيره : أفادت أن النيابة لا تدخل في النية , فإن ذلك هو الأصل , فلا يرد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره فإنها على خلاف الأصل . وقال ابن عبد السلام : الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال , والثانية لبيان ما يترتب عليها . وأفاد أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها , وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار والأدعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة . ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع , أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا , ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا , ومن ثم قال الغزالي : حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب ; لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة , بل هو خير من السكوت مطلقا , أي المجرد عن التفكر . قال : وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب انتهى . ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في بضع أحدكم صدقة ثم قال في الجواب عن قولهم أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر ؟ : أرأيت لو وضعها في حرام . وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح لأنه خير من فعل الحرام , وليس ذلك مراده . وخص من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه كتحية المسجد كما تقدم , وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة فإن عدتها تنقضي ; لأن المقصود حصول براءة الرحم وقد وجدت , ومن ثم لم يحتج المتروك إلى نية . ونازع الكرماني في إطلاق الشيخ محيي الدين كون المتروك لا يحتاج إلى نية بأن الترك فعل وهو كف النفس , وبأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلا بد فيها من قصد الترك , وتعقب بأن قوله الترك فعل مختلف فيه , ومن حق المستدل على المانع أن يأتي بأمر متفق عليه . وأما استدلاله الثاني فلا يطابق المورد ; لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها ؟ والذي أورده هل يحصل الثواب بدونها ؟ والتفاوت بين المقامين ظاهر . والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه , وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس , فمن لم تخطر المعصية بباله أصلا ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفا من الله تعالى , فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه , لا الترك المجرد . والله أعلم . ‏
    ‏( تنبيه ) : ‏
    ‏قال الكرماني : إذا قلنا إن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله وإنما لكل امرئ ما نوى نوعان من الحصر : قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لكل امرئ ما نواه , والتقديم المذكور . ‏

    ‏قوله : ( فمن كانت هجرته إلى دنيا ) ‏
    ‏كذا وقع في جميع الأصول التي اتصلت لنا عن البخاري بحذف أحد وجهي التقسيم وهو قوله فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله إلخ قال الخطابي : وقع هذا الحديث في روايتنا وجميع نسخ أصحابنا مخروما قد ذهب شطره , ولست أدري كيف وقع هذا الإغفال , ومن جهة من عرض من رواته ؟ فقد ذكره البخاري من غير طريق الحميدي مستوفى , وقد رواه لنا الأثبات من طريق الحميدي تاما , ونقل ابن التين كلام الخطابي مختصرا وفهم من قوله مخروما أنه قد يريد أن في السند انقطاعا فقال من قبل نفسه لأن البخاري لم يلق الحميدي , وهو مما يتعجب من إطلاقه مع قول البخاري حدثنا الحميدي وتكرار ذلك منه في هذا الكتاب , وجزم كل من ترجمه بأن الحميدي من شيوخه في الفقه والحديث , وقال ابن العربي في مشيخته : لا عذر للبخاري في إسقاطه لأن الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام . قال : وذكر قوم أنه لعله استملاه من حفظ الحميدي فحدثه هكذا فحدث عنه كما سمع أو حدثه به تاما فسقط من حفظ البخاري . قال : وهو أمر مستبعد جدا عند من اطلع على أحوال القوم . وقال الداودي الشارح : الإسقاط فيه من البخاري فوجوده في رواية شيخه وشيخ شيخه يدل على ذلك انتهى . وقد رويناه من طريق بشر بن موسى وأبي إسماعيل الترمذي وغير واحد عن الحميدي تاما , وهو في مصنف قاسم بن أصبغ ومستخرجي أبي نعيم وصحيح أبي عوانة من طريق الحميدي , فإن كان الإسقاط من غير البخاري فقد يقال : لم اختار الابتداء بهذا السياق الناقص ؟ والجواب قد تقدمت الإشارة إليه , وأنه اختار الحميدي لكونه أجل مشايخه المكيين إلى آخر ما تقدم في ذلك من المناسبة , وإن كان الإسقاط منه فالجواب ما قاله أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الحافظ في أجوبة له على البخاري : إن أحسن ما يجاب به هنا أن يقال : لعل البخاري قصد أن يجعل لكتابه صدرا يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف , فكأنه ابتدأ كتابه بنية رد علمها إلى الله , فإن علم منه أنه أراد الدنيا أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته . ونكب عن أحد وجهي التقسيم مجانبة للتزكية التي لا يناسب ذكرها في ذلك المقام . انتهى ملخصا . وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة , والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصل القربة أو لا , فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة فرارا من التزكية , وبقيت الجملة المترددة المحتملة تفويضا للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازي له بمقتضى نيته . ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم , وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى والتدقيق في الاستنباط وإيثار الأغمض على الأجلى وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره , استعمل جميع ذلك في هذا الموضع بعبارة هذا الحديث متنا وإسنادا . وقد وقع في رواية حماد بن زيد في باب الهجرة تأخر قوله فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله عن قوله فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها , فيحتمل أن تكون رواية الحميدي وقعت عند البخاري كذلك فتكون الجملة المحذوفة هي الأخيرة كما جرت به عادة من يقتصر على بعض الحديث . وعلى تقدير أن لا يكون ذلك فهو مصير من البخاري إلى جواز الاختصار في الحديث ولو من أثنائه . وهذا هو الراجح , والله أعلم . وقال الكرماني في غير هذا الموضع : إن كان الحديث عند البخاري تاما لم خرمه في صدر الكتاب , مع أن الخرم مختلف في جوازه ؟ قلت : لا جزم بالخرم ; لأن المقامات مختلفة , فلعله – في مقام بيان أن الإيمان بالنية واعتقاد القلب – سمع الحديث تاما , وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية سمع ذلك القدر الذي روي . ثم الخرم يحتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه , ثم إن كان منه فخرمه ثم لأن المقصود يتم بذلك المقدار . فإن قلت : فكان المناسب أن يذكر عند الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده , وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله . قلت : لعله نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس . انتهى . وهو كلام من لم يطلع على شيء من أقوال من قدمت ذكره من الأئمة على هذا الحديث , ولا سيما كلام ابن العربي . وقال في موضع آخر : إن إيراد الحديث تاما تارة وغير تام تارة إنما هو اختلاف الرواة , فكل منهم قد روى ما سمعه فلا خرم من أحد , ولكن البخاري يذكرها في المواضع التي يناسب كلا منها بحسب الباب الذي يضعه ترجمة له , انتهى وكأنه لم يطلع على حديث أخرجه البخاري بسند واحد من ابتدائه إلى انتهائه فساقه في موضع تاما وفي موضع مقتصرا على بعضه , وهو كثير جدا في الجامع الصحيح , فلا يرتاب من يكون الحديث صناعته أن ذلك من تصرفه ; لأنه عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضع على وجهين , بل إن كان له أكثر من سند على شرطه ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني وهكذا ما بعده , وما لم يكن على شرطه يعلقه في الموضع الآخر تارة بالجزم إن كان صحيحا وتارة بغيره إن كان فيه شيء , وما ليس له إلا سند واحد يتصرف في متنه بالاقتصار على بعضه بحسب ما يتفق , ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سندا ومتنا في موضعين أو أكثر إلا نادرا , فقد عني بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعا . ‏
    ‏قوله : ( هجرته ) الهجرة : الترك , والهجرة إلى الشيء : الانتقال إليه عن غيره . وفي الشرع : ترك ما نهى الله عنه . وقد وقعت في الإسلام على وجهين : الأول الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة , الثاني الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين . وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة , إلى أن فتحت مكة فانقطع من الاختصاص , وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا . فإن قيل : الأصل تغاير الشرط والجزاء فلا يقال مثلا : من أطاع أطاع وإنما يقال مثلا : من أطاع نجا , وقد وقعا في هذا الحديث متحدين , فالجواب أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر , وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق , ومن أمثلته قوله تعالى ( ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ) وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس , كقولهم : أنت أنا . أي : الصديق الخالص , وقولهم : هم هم . أي : الذين لا يقدر قدرهم , وقول الشاعر ‏ ‏أنا أبو النجم وشعري شعري ‏ ‏, أو هو مؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب . وقال ابن مالك : قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشهرة وعدم التغير فيتحد بالمبتدأ لفظا كقول الشاعر : ‏ ‏خليلي خليلي دون ريب وربما ‏ ‏ألان امرؤ قولا فظن خليلا ‏ ‏وقد يفعل مثل هذا بجواب الشرط كقولك : من قصدني فقد قصدني . أي : فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده , وقال غيره : إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم وإما في التحقير . ‏

    ‏قوله : ( إلى دنيا ) ‏
    ‏بضم الدال , وحكى ابن قتيبة كسرها , وهي فعلى من الدنو أي : القرب , سميت بذلك لسبقها للأخرى . وقيل : سميت دنيا لدنوها إلى الزوال . واختلف في حقيقتها فقيل ما على الأرض من الهواء والجو , وقيل كل المخلوقات من الجواهر والأعراض , والأولى أولى . لكن يزاد فيه مما قبل قيام الساعة , ويطلق على كل جزء منها مجازا . ثم إن لفظها مقصور غير منون , وحكي تنوينها , وعزاه ابن دحية إلى رواية أبي الهيثم الكشميهني وضعفها , وحكي عن ابن مغاور أن أبا الهروي في آخر أمره كان يحذف كثيرا من رواية أبي الهيثم حيث ينفرد ; لأنه لم يكن من أهل العلم . قلت : وهذا ليس على إطلاقه , فإن في رواية أبي الهيثم مواضع كثيرة أصوب من رواية غيره , كما سيأتي مبينا في مواضعه . وقال التيمي في شرحه : قوله دنيا هو تأنيث الأدنى ليس بمصروف , لاجتماع الوصفية ولزوم حرف التأنيث . وتعقب بأن لزوم التأنيث للألف المقصورة كاف في عدم الصرف , وأما الوصفية فقال ابن مالك : استعمال دنيا منكرا فيه إشكال ; لأنها فعل التفضيل , فكان من حقها أن تستعمل باللام كالكبرى والحسنى , قال : إلا أنها خلعت عنها الوصفية أو أجريت مجرى ما لم يكن وصفا قط , ومثله قول الشاعر : ‏ ‏وإن دعوت إلى جلى ومكرمة ‏ ‏يوما سراة كرام الناس فادعينا ‏ ‏وقال الكرماني : قوله إلى يتعلق بالهجرة إن كان لفظ كانت تامة , أو هو خبر لكانت إن كانت ناقصة . ثم أورد ما محصله : أن لفظ كان إن كان للأمر الماضي فلا يعلم ما الحكم بعد صدور هذا القول في ذلك . وأجاب بأنه يجوز أن يراد بلفظ كان الوجود من غير تقييد بزمان , أو يقاس المستقبل على الماضي , أو من جهة أن حكم المكلفين سواء . ‏

    ‏قوله : ( يصيبها ) ‏
    ‏أي يحصلها ; لأن تحصيلها كإصابة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصود . ‏

    ‏قوله : ( أو امرأة ) ‏
    ‏قيل التنصيص عليها من الخاص بعد العام للاهتمام به . وتعقبه النووي بأن لفظ دنيا نكرة وهي لا تعم في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها . وتعقب بكونها في سياق الشرط فتعم , ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير ; لأن الافتتان بها أشد . وقد تقدم النقل عمن حكى أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس ولم نقف على تسميته . ونقل ابن دحية أن اسمها قيلة بقاف مفتوحة ثم تحتانية ساكنة , وحكى ابن بطال عن ابن سراج أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى العربية , ويراعون الكفاءة في النسب , فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها من كان لا يصل إليها قبل ذلك انتهى . ويحتاج إلى نقل ثابت أن هذا المهاجر كان مولى وكانت المرأة عربية , وليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه بل قد زوج خلق كثير منهم جماعة من مواليهم وحلفائهم قبل الإسلام , وإطلاقه أن الإسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع . ‏

    ‏قوله : ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ‏
    ‏يحتمل أن يكون ذكره بالضمير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها , وإنما أبرز الضمير في الجملة التي قبلها وهي المحذوفة لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما , بخلاف الدنيا والمرأة فإن السياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما . وقال الكرماني : يحتمل أن يكون قوله إلى ما هاجر إليه متعلقا بالهجرة , فيكون الخبر محذوفا والتقدير قبيحة أو غير صحيحة مثلا , ويحتمل أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت انتهى . وهذا الثاني هو الراجح ; لأن الأول يقتضي أن تلك الهجرة مذمومة مطلقا , وليس كذلك , إلا إن حمل على تقدير شيء يقتضي التردد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى بهجرته مفارقة دار الكفر وتزوج المرأة معا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة , بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة , وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة , فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يثاب على قصد الهجرة لكن دون ثواب من أخلص , وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله ; لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف . ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي عن أنس قال : تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام , أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت : إني قد أسلمت , فإن أسلمت تزوجتك . فأسلم فتزوجته . وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية , أو بطوافه العبادة وملازمة الغريم . واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر , أو الديني أجر بقدره , وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر . وأما إذا نوى العبادة وخالطها بشيء مما يغاير الإخلاص فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء , فإن كان ابتداؤه لله خالصا لم يضره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب أو غيره . والله أعلم . واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم ; لأن فيه أن العمل يكون منتفيا إذا خلا عن النية , ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة الحكم , وعلى أن الغافل لا تكليف عليه ; لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد , وعلى أن من صام تطوعا بنية قبل الزوال أن لا يحسب له إلا من وقت النية وهو مقتضى الحديث , لكن تمسك من قال بانعطافها بدليل آخر , ونظيره حديث من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها أي : أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت , وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى , وعلى أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة ثم ذكر عن ذلك المجلس شيئا لا يمكن غفلتهم عنه ولم يذكره غيره أن ذلك لا يقدح في صدقه , خلافا لمن أعل بذلك ; لأن علقمة ذكر أن عمر خطب به على المنبر ثم لم يصح من جهة أحد عنه غير علقمة . واستدل بمفهومه على أن ما ليس بعمل لا تشترط النية فيه , ومن أمثلة ذلك جمع التقديم فإن الراجح من حيث النظر أنه لا يشترط له نية , بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام وقال : الجمع ليس بعمل , وإنما العمل الصلاة . ويقوي ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه , ولو كان شرطا لأعلمهم به , واستدل به على أن العمل إذا كان مضافا إلى سبب ويجمع متعدده جنس أن نية الجنس تكفي , كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره ; لأن معنى الحديث أن الأعمال بنياتها , والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب , وعلى هذا لو كانت عليه كفارة – وشك في سببها – أجزأه إخراجها بغير تعيين . وفيه زيادة النص على السبب ; لأن الحديث سيق في قصة المهاجر لتزويج المرأة , فذكر الدنيا في القصة زيادة في التحذير والتنفير . وقال شيخنا شيخ الإسلام : فيه إطلاق العام وإن كان سببه خاصا , فيستنبط منه الإشارة إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب , وسيأتي ذكر كثير من فوائد هذا الحديث في كتاب الإيمان حيث قال المصنف في الترجمة فدخل فيه العبادات والأحكام إن شاء الله تعالى , وبالله التوفيق . ‏

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302372
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏عبد الله بن يوسف ‏ ‏قال أخبرنا ‏ ‏مالك ‏ ‏عن ‏ ‏هشام بن عروة ‏ ‏عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏عن ‏ ‏عائشة أم المؤمنين ‏ ‏رضي الله عنها ‏
    ‏أن ‏ ‏الحارث بن هشام ‏ ‏رضي الله عنه ‏ ‏سأل رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أحيانا يأتيني مثل ‏ ‏صلصلة ‏ ‏الجرس وهو أشده علي ‏ ‏فيفصم ‏ ‏عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي ‏ ‏الملك ‏ ‏رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت ‏ ‏عائشة ‏ ‏رضي الله عنها ‏ ‏ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ‏ ‏فيفصم ‏ ‏عنه وإن جبينه ‏ ‏ليتفصد ‏ ‏عرقا ‏
      

    ‏قوله : ( حدثنا عبد الله بن يوسف ) ‏
    ‏هو التنيسي , كان نزل تنيس من عمل مصر , وأصله دمشقي , وهو من أتقن الناس في الموطأ , كذا وصفه يحيى بن معين . ‏

    ‏قوله : ( أم المؤمنين ) ‏
    ‏هو مأخوذ من قوله تعالى ( وأزواجه أمهاتهم ) أي : في الاحترام وتحريم نكاحهن لا في غير ذلك مما اختلف فيه على الراجح , وإنما قيل للواحدة منهن أم المؤمنين للتغليب , وإلا فلا مانع من أن يقال لها أم المؤمنات على الراجح . ‏

    ‏قوله : ( أن الحارث بن هشام ) ‏
    ‏هو المخزومي , أخو أبي جهل شقيقه , أسلم يوم الفتح , وكان من فضلاء الصحابة , واستشهد في فتوح الشام . ‏

    ‏قوله ( سأل ) ‏
    ‏هكذا رواه أكثر الرواة عن هشام بن عروة , فيحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك , وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة . ويحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة , وهو محكوم بوصله عند الجمهور . وقد جاء ما يؤيد الثاني , ففي مسند أحمد ومعجم البغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قال : سألت . وعامر فيه ضعف , لكن وجدت له متابعا عند ابن منده , والمشهور الأول . ‏

    ‏قوله : ( كيف يأتيك الوحي ) ‏
    ‏يحتمل أن يكون المسئول عنه صفة الوحي نفسه , ويحتمل أن يكون صفة حامله أو ما هو أعم من ذلك , وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز ; لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله . واعترض الإسماعيلي فقال : هذا الحديث لا يصلح لهذه الترجمة , وإنما المناسب لكيفية بدء الوحي الحديث الذي بعده , وأما هذا فهو لكيفية إتيان الوحي لا لبدء الوحي ا ه . قال الكرماني : لعل المراد منه السؤال عن كيفية ابتداء الوحي , أو عن كيفية ظهور الوحي , فيوافق ترجمة الباب . قلت : سياقه يشعر بخلاف ذلك لإتيانه بصيغة المستقبل دون الماضي , لكن يمكن أن يقال : إن المناسبة تظهر من الجواب ; لأن فيه إشارة إلى انحصار صفة الوحي أو صفة حامله في الأمرين فيشمل حالة الابتداء , وأيضا فلا أثر للتقديم والتأخير هنا ولو لم تظهر المناسبة , فضلا عن أنا قدمنا أنه أراد البداءة بالتحديث عن إمامي الحجاز فبدأ بمكة ثم ثنى بالمدينة . وأيضا فلا يلزم أن تتعلق جميع أحاديث الباب ببدء الوحي , بل يكفي أن يتعلق بذلك وبما يتعلق به وبما يتعلق بالآية أيضا , وذلك أن أحاديث الباب تتعلق بلفظ الترجمة وبما اشتملت عليه , ولما كان في الآية أن الوحي إليه نظير الوحي إلى الأنبياء قبله ناسب تقديم ما يتعلق بها وهو صفة الوحي وصفة حامله إشارة إلى أن الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه , فحسن إيراد هذا الحديث عقب حديث الأعمال الذي تقدم التقدير بأن تعلقه بالآية الكريمة أقوى تعلق , والله سبحانه وتعالى أعلم . ‏

    ‏قوله : ( أحيانا ) ‏
    ‏جمع حين يطلق على كثير الوقت وقليله , والمراد به هنا مجرد الوقت , فكأنه قال : أوقاتا يأتيني , وانتصب على الظرفية وعامله يأتيني مؤخر عنه , وللمصنف من وجه آخر عن هشام في بدء الخلق قال : كل ذلك يأتي الملك , أي : كل ذلك حالتان فذكرهما . وروى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول كان الوحي يأتيني على نحوين : يأتيني به جبريل فيلقيه علي كما يلقي الرجل على الرجل , فذاك ينفلت مني . ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي , فذاك الذي لا ينفلت مني وهذا مرسل مع ثقة رجاله , فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى ( لا تحرك به لسانك ) كما سيأتي , فإن الملك قد تمثل رجلا في صور كثيرة ولم ينفلت منه ما أتاه به كما في قصة مجيئه في صورة دحية وفي صورة أعرابي وغير ذلك وكلها في الصحيح . وأورد على ما اقتضاه الحديث – وهو أن الوحي منحصر في الحالتين – حالات أخرى : إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل , والنفث في الروع , والإلهام , والرؤيا الصالحة , والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة . وإما من صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح , ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق . والجواب منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب , أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال , أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما , فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين أو لم يأته في تلك الحالة بوحي أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس , فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله . وأما فنون الوحي فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس ; لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين – كما في حديث عمر – يسمع عنده كدوي النحل والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين , وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه . وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين , فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفث حينئذ في روعه . وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه ; لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل , وكذا التكليم ليلة الإسراء . وأما الرؤية الصالحة فقال ابن بطال : لا ترد ; لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس ; لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره ا ه . والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير , وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك , ويحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة , أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل فاقتصر على ما يخفى عليه , أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضا على الوجهين المذكورين لا غير , قاله الكرماني : وفيه نظر . وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا – فذكرها – وغالبها من صفات حامل الوحي , ومجموعها يدخل فيما ذكر , وحديث إن روح القدس نفث في روعي , أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة , وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود . ‏

    ‏قوله : ( مثل صلصلة الجرس ) ‏
    ‏في رواية مسلم في مثل صلصلة الجرس والصلصلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة : في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض , ثم أطلق على كل صوت له طنين , وقيل : هو صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة , والجرس الجلجل الذي يعلق في رءوس الدواب , واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحس , وقال الكرماني : الجرس ناقوس صغير أو سطل في داخله قطعة نحاس يعلق منكوسا على البعير , فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحصلت الصلصلة ا ه . وهو تطويل للتعريف بما لا طائل تحته . وقوله قطعة نحاس معترض لا يختص به وكذا البعير وكذا قوله منكوسا ; لأن تعليقه على تلك الصورة هو وضعه المستقيم له . فإن قيل : المحمود لا يشبه بالمذموم , إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل , والمشبه الوحي وهو محمود , والمشبه به صوت الجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة كما أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما , فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة ؟ والجواب أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها , بل ولا في أخص وصف له , بل يكفي اشتراكهما في صفة ما , فالمقصود هنا بيان الجنس , فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبا لأفهامهم . والحاصل أن الصوت له جهتان : جهة قوة وجهة طنين , فمن حيث القوة وقع التشبيه به , ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان , ويحتمل أن يكون النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور وفيه نظر . قيل : والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي , قال الخطابي : يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد , وقيل : بل هو صوت حفيف أجنحة الملك 0 والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره , ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من الآلات , وسيأتي كلام ابن بطال في هذا المقام في الكلام على حديث ابن عباس إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها الحديث عند تفسير قوله : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) في تفسير سورة سبأ إن شاء الله تعالى . ‏

    ‏قوله : ( وهو أشده علي ) ‏
    ‏يفهم منه أن الوحي كله شديد , ولكن هذه الصفة أشدها , وهو واضح ; لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود , والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع , وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول , وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني , والأول أشد بلا شك . وقال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني : سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما سيأتي في حديث ابن عباس كان يعالج من التنزيل شدة قال وقال بعضهم : وإنما كان شديدا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع ا ه . وقيل إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد , وهذا فيه نظر , والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما سيأتي بيانه في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج , فإن فيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي عليه وإنه ليغط , وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى , والدرجات . ‏

    ‏قوله : ( فيفصم ) ‏
    ‏فتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة أي : يقلع ويتجلى ما يغشاني , ويروى بضم أوله من الرباعي , وفي رواية لأبي ذر بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول , وأصل الفصم القطع , ومنه قوله تعالى ( لا انفصام لها ) , وقيل الفصم بالفاء القطع بلا إبانة وبالقاف القطع بإبانة , فذكر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود , والجامع بينهما بقاء العلقة . ‏

    ‏قوله : ( وقد وعيت عنه ما قال ) ‏
    ‏أي : القول الذي جاء به , وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك , ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عمن قال من الكفار ( إن هذا إلا قول البشر ) لأنهم كانوا ينكرون الوحي , وينكرون مجيء الملك به . ‏

    ‏قوله : ( يتمثل لي الملك رجلا ) ‏
    ‏التمثل مشتق من المثل , أي : يتصور . واللام في الملك للعهد وهو جبريل , وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد المقدم ذكرها . وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر . ‏
    ‏قال المتكلمون : الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا , وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية , و رجلا منصوب بالمصدرية , أي : يتمثل مثل رجل , أو بالتمييز , أو بالحال والتقدير هيئة رجل . قال إمام الحرمين : تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه , ثم يعيده إليه بعد . وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء , وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته , بل يجوز أن يبقى الجسد حيا ; لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه . ‏
    ‏ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة . وقال شيخنا شيخ الإسلام : ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه , بل يجوز أن يكون الثاني هو جبريل بشكله الأصلي , إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل , وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته , ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشا فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير . وهذا على سبيل التقريب , والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا , بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه . والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى , بل يخفى على الرائي فقط . والله أعلم . ‏

    ‏قوله : ( فيكلمني ) ‏
    ‏كذا للأكثر , ووقع في رواية البيهقي من طريق القعنبي عن مالك فيعلمني بالعين بدل الكاف , والظاهر أنه تصحيف , فقد وقع في الموطأ رواية القعنبي بالكاف , وكذا للدارقطني في حديث مالك من طريق القعنبي وغيره . ‏

    ‏قوله : ( فأعي ما يقول ) ‏
    ‏زاد أبو عوانة في صحيحه وهو أهونه علي . وقد وقع التغاير في الحالتين حيث قال في الأولى وقد وعيت بلفظ الماضي , وهنا فأعي بلفظ الاستقبال ; لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم , وفي الثاني حصل حال المكالمة , أو أنه كان في الأول قد تلبس بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلية كان حافظا لما قيل له فعبر عنه بالماضي , بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة . ‏

    ‏قوله : ( قالت عائشة ) ‏
    ‏هو بالإسناد الذي قبله , وإن كان بغير حرف العطف كما يستعمل المصنف وغيره كثيرا , وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف . وقد أخرجه الدارقطني في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك مفصولا عن الحديث الأول , وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام ونكتة هذا الاقتطاع هنا اختلاف التحمل ; لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث , وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدا للخبر الأول . ‏

    ‏قوله : ( ليتفصد ) ‏
    ‏بالفاء وتشديد المهملة , مأخوذ من الفصد وهو قطع العرق لإسالة الدم , شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق . وفي قولها في اليوم الشديد البرد دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي , لما فيه من مخالفة العادة , وهو كثرة العرق في شدة البرد , فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية . ‏
    ‏وقوله عرقا ‏
    ‏بالنصب على التمييز , زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في الدلائل وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه . ‏
    ‏( تنبيه ) : ‏
    ‏حكى العسكري في التصحيف عن بعض شيوخه أنه قرأ ليتقصد بالقاف , ثم قال العسكري : إن ثبت فهو من قولهم تقصد الشيء إذا تكسر وتقطع , ولا يخفى بعده انتهى . وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر , فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء , قال : فأصر على القاف , وذكر الذهبي في ترجمة ابن طاهر عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف , قال : فكابرني . قلت : ولعل ابن طاهر وجهها بما أشار إليه العسكري . والله أعلم . وفي حديث الباب من الفوائد – غير ما تقدم – أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين , وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره , وأن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل . والله أعلم . ‏

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302373
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏يحيى بن بكير ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏الليث ‏ ‏عن ‏ ‏عقيل ‏ ‏عن ‏ ‏ابن شهاب ‏ ‏عن ‏ ‏عروة بن الزبير ‏ ‏عن ‏ ‏عائشة أم المؤمنين ‏ ‏أنها قالت ‏
    ‏أول ما بدئ به رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل ‏ ‏فلق ‏ ‏الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو ‏ ‏بغار حراء ‏ ‏فيتحنث ‏ ‏فيه ‏ ‏وهو التعبد ‏ ‏الليالي ذوات العدد ‏ ‏قبل أن ‏ ‏ينزع ‏ ‏إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى ‏ ‏خديجة ‏ ‏فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في ‏ ‏غار حراء ‏ ‏فجاءه ‏ ‏الملك ‏ ‏فقال ‏ ‏اقرأ قال ما أنا بقارئ قال فأخذني ‏ ‏فغطني ‏ ‏حتى بلغ مني الجهد ثم ‏ ‏أرسلني ‏ ‏فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني ‏ ‏فغطني ‏ ‏الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم ‏ ‏أرسلني ‏ ‏فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني ‏ ‏فغطني ‏ ‏الثالثة ثم ‏ ‏أرسلني ‏ ‏فقال ‏
    ‏اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من ‏ ‏علق ‏ ‏اقرأ وربك الأكرم ‏  
    ‏فرجع بها رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يرجف فؤاده فدخل على ‏ ‏خديجة بنت خويلد ‏ ‏رضي الله عنها ‏ ‏فقال ‏ ‏زملوني ‏ ‏زملوني ‏ ‏فزملوه حتى ذهب عنه ‏ ‏الروع ‏ ‏فقال ‏ ‏لخديجة ‏ ‏وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت ‏ ‏خديجة ‏ ‏كلا والله ‏ ‏ما يخزيك ‏ ‏الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل ‏ ‏الكل ‏ ‏وتكسب ‏ ‏المعدوم ‏ ‏وتقري ‏ ‏الضيف وتعين على ‏ ‏نوائب ‏ ‏الحق فانطلقت به ‏ ‏خديجة ‏ ‏حتى أتت به ‏ ‏ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ‏ ‏ابن عم ‏ ‏خديجة ‏ ‏وكان امرأ قد ‏ ‏تنصر ‏ ‏في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له ‏ ‏خديجة ‏ ‏يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ‏ ‏ورقة ‏ ‏يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏خبر ما رأى فقال له ‏ ‏ورقة ‏ ‏هذا ‏ ‏الناموس ‏ ‏الذي نزل الله على ‏ ‏موسى ‏ ‏يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أومخرجي هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا ‏ ‏مؤزرا ‏ ‏ثم لم ‏ ‏ينشب ‏ ‏ورقة ‏ ‏أن توفي وفتر الوحي ‏
    ‏قال ‏ ‏ابن شهاب ‏ ‏وأخبرني ‏ ‏أبو سلمة بن عبد الرحمن ‏ ‏أن ‏ ‏جابر بن عبد الله الأنصاري ‏ ‏قال ‏ ‏وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا ‏ ‏الملك ‏ ‏الذي جاءني ‏ ‏بحراء ‏ ‏جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت ‏ ‏زملوني ‏ ‏زملوني فأنزل الله تعالى ‏
    ‏يا أيها ‏ ‏المدثر ‏ ‏قم فأنذر ‏ ‏إلى قوله ‏ ‏والرجز ‏ ‏فاهجر ‏  
    ‏فحمي ‏ ‏الوحي وتتابع ‏ ‏تابعه ‏ ‏عبد الله بن يوسف ‏ ‏وأبو صالح ‏ ‏وتابعه ‏ ‏هلال بن رداد ‏ ‏عن ‏ ‏الزهري ‏ ‏وقال ‏ ‏يونس ‏ ‏ومعمر ‏ ‏بوادره

    ‏قوله : ( حدثنا يحيى بن بكير ) ‏
    ‏هو يحيى بن عبد الله بن بكير نسبة إلى جده لشهرته بذلك , وهو من كبار حفاظ المصريين , وأثبت الناس في الليث بن سعد الفهمي فقيه المصريين . وعقيل بالضم على التصغير , وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب , وهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه , نسب إلى جد جده لشهرته , الزهري نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب , وهو من رهط آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم , اتفقوا على إتقانه وإمامته . ‏

    ‏قوله : ( من الوحي ) ‏
    ‏يحتمل أن تكون من تبعيضية , أي : من أقسام الوحي , ويحتمل أن تكون بيانية ورجحه القزاز . والرؤيا الصالحة وقع في رواية معمر ويونس عند المصنف في التفسير الصادقة وهي التي ليس فيها ضغث , وبدئ بذلك ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة , ثم مهد له في اليقظة أيضا رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر . ‏

    ‏قوله : ( في النوم ) ‏
    ‏لزيادة الإيضاح , أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازا . ‏

    ‏قوله : ( مثل فلق الصبح ) ‏
    ‏بنصب مثل على الحال , أي : مشبهة ضياء الصبح , أو على أنه صفة لمحذوف , أي : جاءت مجيئا مثل فلق الصبح . والمراد بفلق الصبح ضياؤه . وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه . ‏

    ‏قوله : ( حبب ) ‏
    ‏لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك وإن كان كل من عند الله , أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر , أو يكون ذلك من وحي الإلهام . والخلاء بالمد الخلوة , والسر فيه أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له . وحراء بالمد وكسر أوله كذا في الرواية وهو صحيح , وفي رواية الأصيلي بالفتح والقصر وقد حكي أيضا , وحكي فيه غير ذلك جوازا لا رواية . هو جبل معروف بمكة . والغار نقب في الجبل وجمعه غيران . ‏

    ‏قوله : ( فيتحنث ) ‏
    ‏هي بمعنى يتحنف , أي : يتبع الحنفية وهي دين إبراهيم , والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم . وقد وقع في رواية ابن هشام في السيرة يتحنف بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم , كما قيل يتأثم ويتحرج ونحوهما . ‏

    ‏قوله : ( وهو التعبد ) ‏
    ‏هذا مدرج في الخبر , وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله , نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراج . ‏

    ‏قوله : ( الليالي ذوات العدد ) ‏
    ‏يتعلق بقوله يتحنث , وإبهام العدد لاختلافه , كذا قيل . وهو بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله , وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهي شهر , وذلك الشهر كان رمضان رواه ابن إسحاق . والليالي منصوبة على الظرف , وذوات منصوبة أيضا وعلامة النصب فيه كسر التاء . وينزع بكسر الزاي أي : يرجع وزنا ومعنى , ورواه المؤلف بلفظه في التفسير . ‏

    ‏قوله : ( لمثلها ) ‏
    ‏أي : الليالي . والتزود استصحاب الزاد . ويتزود معطوف على يتحنث . وخديجة هي أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى , تأتي أخبارها في مناقبها . ‏

    ‏قوله : ( حتى جاءه الحق ) ‏
    ‏أي : الأمر الحق , وفي التفسير : حتى فجئه الحق – بكسر الجيم – أي بغته . وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحي إليه بذلك في المنام أولا قبل اليقظة , أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عقب ما تقدم في المنام . وسمي حقا لأنه وحي من الله تعالى . وقد وقع في رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول شأنه يرى في المنام , وكان أول ما رأى جبريل بأجياد , صرخ جبريل يا محمد فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا , فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال يا محمد , جبريل فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئا , ثم خرج عنهم فناداه فهرب . ثم استعلن له جبريل من قبل حراء , ‏
    ‏فذكر قصة إقرائه ( اقرأ باسم ربك ) ‏
    ‏ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر , وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود , وابن لهيعة ضعيف . وقد ثبت في صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا لم أره – يعني جبريل – على صورته التي خلق عليها إلا مرتين , وبين أحمد في حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها , والثانية عند المعراج . وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين : مرة عند سدرة المنتهى , ومرة في أجياد وهذا يقوي رواية ابن لهيعة , وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين , وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته , والعلم عند الله تعالى . ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيمي فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في حراء وأقرأه ( اقرأ باسم ربك ) ثم انصرف , فبقي مترددا , فأتاه من أمامه في صورته فرأى أمرا عظيما . ‏

    ‏قوله : ( فجاءه ) ‏
    ‏هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيدية ; لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى تعقب به , بل هو نفسه , ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه , بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال , وغيره من جهة التفصيل . ‏

    ‏قوله : ( ما أنا بقارئ ) ‏
    ‏ثلاثا . ما نافية , إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء , وإن حكي عن الأخفش جوازه فهو شاذ , والباء زائدة لتأكيد النفي , أي : ما أحسن القراءة . فلما قال ذلك ثلاثا قيل له ( اقرأ باسم ربك ) أي : لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك , لكن بحول ربك وإعانته , فهو يعلمك , كما خلقك وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر , وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية , ذكره السهيلي . وقال غيره : إن هذا التركيب – وهو قوله ما أنا بقارئ – يفيد الاختصاص . ورده الطيبي بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد , والتقدير : لست بقارئ ألبتة . فإن قيل : لم كرر ذلك ثلاثا ؟ أجاب أبو شامة بأن يحمل قوله أولا ما أنا بقارئ على الامتناع , وثانيا على الإخبار بالنفي المحض , وثالثا على الاستفهام . ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال : كيف أقرأ وفي رواية عبيد بن عمير عن ابن إسحاق : ماذا أقرأ ؟ وفي مرسل الزهري في دلائل البيهقي : كيف أقرأ ؟ كل ذلك يؤيد أنها استفهامية . والله أعلم . ‏

    ‏قوله : ( فغطني ) ‏
    ‏بغين معجمة وطاء مهملة , وفي رواية الطبري بتاء مثناة من فوق كأنه أراد ضمني وعصرني , والغط حبس النفس , ومنه غطه في الماء , أو أراد غمني ومنه الخنق . ولأبي داود الطيالسي في مسنده بسند حسن : فأخذ بحلقي . ‏

    ‏قوله : ( حتى بلغ مني الجهد ) ‏
    ‏روي بالفتح والنصب , أي : بلغ الغط مني غاية وسعي . وروي بالضم والرفع أي بلغ مني الجهد مبلغه . وقوله أرسلني أي : أطلقني , ولم يذكر الجهد هنا في المرة الثالثة , وهو ثابت عند المؤلف في التفسير . ‏

    ‏قوله : ( فرجع بها ) ‏
    ‏أي بالآيات أو بالقصة . ‏

    ‏قوله : ( فزملوه ) ‏
    ‏أي : لفوه . والروع بالفتح الفزع . ‏

    ‏قوله : ( لقد خشيت على نفسي ) ‏
    ‏دل هذا مع قوله يرجف فؤاده على انفعال حصل له من مجيء الملك , ومن ثم قال زملوني . والخشية المذكورة اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولا : أولها : الجنون وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة , جاء مصرحا به في عدة طرق , وأبطله أبو بكر بن العربي وحق له أن يبطل , لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضروري له أن الذي جاءه ملك وأنه من عند الله تعالى . ثانيها : الهاجس , وهو باطل أيضا ; لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة . ثالثها : الموت من شدة الرعب . رابعها : المرض , وقد جزم به ابن أبي جمرة . خامسها : دوام المرض . سادسها : العجز عن حمل أعباء النبوة . سابعها : العجز عن النظر إلى الملك من الرعب . ثامنها : عدم الصبر على أذى قومه . تاسعها : أن يقتلوه . عاشرها : مفارقة الوطن . حادي عشرها : تكذيبهم إياه . ثاني عشرها : تعييرهم إياه . وأولى هذه الأقوال بالصواب وأسلمها من الارتياب الثالث واللذان بعده , وما عداها فهو معترض . والله الموفق . ‏

    ‏قوله : ( فقالت خديجة كلا ) ‏
    ‏معناها النفي والإبعاد , ويحزنك بفتح أوله والحاء المهملة والزاي المضمومة والنون من الحزن . ولغير أبي ذر بضم أوله والخاء المعجمة والزاي المكسورة ثم الياء الساكنة من الخزي . ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدا بأمر استقرائي وصفته بأصول مكارم الأخلاق ; لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب , وإما بالبدن أو بالمال , وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل , وذلك كله مجموع فيما وصفته به . والكل بفتح الكاف : هو من لا يستقل بأمره كما قال الله تعالى ( وهو كل على مولاه ) ‏
    ‏وقولها وتكسب المعدوم ‏
    ‏في رواية الكشميهني وتكسب بضم أوله , وعليها قال الخطابي : الصواب المعدم بلا واو أي : الفقير ; لأن المعدوم لا يكسب . قلت : ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له , والكسب هو الاستفادة . فكأنها قالت : إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودا رغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزا فتعاونه . وقال قاسم بن ثابت في الدلائل : قوله يكسب معناه ما يعدمه غيره ويعجز عنه يصيبه هو ويكسبه . قال أعرابي يمدح إنسانا : كان أكسبهم لمعدوم , وأعطاهم لمحروم وأنشد في وصف ذئب ‏ ‏كسوب كذا المعدوم من كسب واحد ‏ ‏أي : مما يكسبه وحده . انتهى . ولغير الكشميهني وتكسب بفتح أوله , قال عياض : وهذه الرواية أصح . قلت : قد وجهنا الأولى , وهذه الراجحة , ومعناها تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك , فحذف أحد المفعولين , ويقال : كسبت الرجل مالا وأكسبته بمعنى . وقيل : معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه ما لا يصيب غيرك . وكانت العرب تتمادح بكسب المال , لا سيما قريش . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة محظوظا في التجارة . وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت في المكرمات . ‏
    ‏وقولها وتعين على نوائب الحق ‏
    ‏هي كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم وفي رواية المصنف في التفسير من طريق يونس عن الزهري من الزيادة وتصدق الحديث وهي من أشرف الخصال . وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة وتؤدي الأمانة . وفي هذه القصة من الفوائد استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه , وأن من نزل به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه . ‏

    ‏قوله : ( فانطلقت به ) ‏
    ‏أي مضت معه , فالباء للمصاحبة . وورقة بفتح الراء . ‏
    ‏وقوله ابن عم خديجة ‏
    ‏هو بنصب ابن ويكتب بالألف , وهو بدل من ورقة أو صفة أو بيان , ولا يجوز جره فإنه يصير صفة لعبد العزى , وليس كذلك , ولا كتبه بغير ألف ; لأنه لم يقع بين علمين . ‏

    ‏قوله : ( تنصر ) ‏
    ‏أي : صار نصرانيا , وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين , فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر , وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل , ولهذا أخبر بشأن النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به , إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل وأما زيد بن عمرو فسيأتي خبره في المناقب إن شاء الله تعالى . ‏

    ‏قوله : ( فكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ) ‏
    ‏, وفي رواية يونس ومعمر : ويكتب من الإنجيل بالعربية . ولمسلم : فكان يكتب الكتاب العربي . والجميع صحيح ; لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي , لتمكنه من الكتابين واللسانين . ووقع لبعض الشراح هنا خبط فلا يعرج عليه . وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة , فلهذا جاء في صفتها أناجيلها صدورها . قولها يا ابن عم هذا النداء على حقيقته , ووقع في مسلم يا عم وهو وهم ; لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد , فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين , فتعين الحمل على الحقيقة . وإنما جوزنا ذلك فيما مضى في العبراني والعربي ; لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة واختلفت المخارج فأمكن التعداد , وهذا الحكم يطرد في جميع ما أشبهه . وقالت في حق النبي صلى الله عليه وسلم : اسمع من ابن أخيك . لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء , فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته . أو قالته على سبيل التوقير لسنه . وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسئول , وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة اسمع من ابن أخيك أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أبلغ في التعليم . ‏

    ‏قوله : ( ماذا ترى ؟ ) ‏
    ‏فيه حذف يدل عليه سياق الكلام , وقد صرح به في دلائل النبوة لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شداد في هذه القصة قال : فأتت به ورقة ابن عمها فأخبرته بالذي رأى . ‏

    ‏قوله : ( هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ) . ‏
    ‏وللكشميهني أنزل الله , وفي التفسير أنزل على البناء للمفعول وأشار بقوله هذا إلى الملك الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في خبره , ونزله منزلة القريب لقرب ذكره . والناموس : صاحب السر كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء . وزعم ابن ظفر أن الناموس صاحب سر الخير , والجاسوس صاحب سر الشر . والأول الصحيح الذي عليه الجمهور . وقد سوى بينهما رؤية بن العجاج أحد فصحاء العرب . والمراد بالناموس هنا جبريل عليه السلام . وقوله على موسى ولم يقل على عيسى مع كونه نصرانيا ; لأن كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام , بخلاف عيسى . وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم . أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه , بخلاف عيسى . كذلك وقعت النقمة على يد النبي صلى الله عليه وسلم بفرعون هذه الأمة وهو أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر . أو قاله تحقيقا للرسالة ; لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب , بخلاف عيسى فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته , وأما ما تمحل له السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمن بدل على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال : ناموس عيسى . والأصح ما تقدم , وعبد الله بن معاذ ضعيف . نعم في دلائل النبوة لأبي نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة أن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال : لئن كنت صدقتني إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم . فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة ناموس عيسى وتارة ناموس موسى , فعند إخبار خديجة له بالقصة قال لها ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية , وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له قال له ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها , وكل صحيح . والله سبحانه وتعالى أعلم . ‏

    ‏قوله : ( يا ليتني فيها جذع ) ‏
    ‏كذا في رواية الأصيلي , وعند الباقين يا ليتني فيها جذعا بالنصب على أنه خبر كان المقدرة قاله الخطابي , وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالى ( انتهوا خيرا لكم ) . وقال ابن بري : التقدير : يا ليتني جعلت فيها جذعا . وقيل : النصب على الحال إذا جعلت فيها خبر ليت , والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار , قاله السهيلي وضمير فيها يعود على أيام الدعوة . والجذع – بفتح الجيم والذال المعجمة – هو الصغير من البهائم , كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا ليكون أمكن لنصره , وبهذا يتبين سر وصفه بكونه كان كبيرا أعمى . ‏

    ‏قوله : ( إذ يخرجك ) ‏
    ‏قال ابن مالك فيه استعمال إذ في المستقبل كإذا , وهو صحيح , وغفل عنه أكثر النحاة , وهو كقوله تعالى ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر ) هكذا ذكره ابن مالك وأقره عليه غير واحد . وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده , وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا : استعمل الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته , ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير حين يخرجك قومك وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز , وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز , ومجازهم أولى , لما ينبني عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضي تحقيقا لوقوعه أو استحضارا للصورة الآتية في هذه دون تلك مع وجوده في أفصح الكلام , وكأنه أراد بمنع الورود ورودا محمولا على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال , وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير ; لأن ورقة تمنى أن يعود شابا , وهو مستحيل عادة . ويظهر لي أن التمني ليس مقصودا على بابه , بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به , والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به . ‏

    ‏قوله : ( أومخرجي هم ) ‏
    ‏بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج , فهم مبتدأ مؤخر ومخرجي خبر مقدم قاله ابن مالك واستبعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوه ; لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج , لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها . وقد استدل ابن الدغنة بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يخرج . ‏

    ‏قوله : ( إلا عودي ) ‏
    ‏وفي رواية يونس في التفسير إلا أوذي فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم ; ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك , وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من ثم , وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام . ‏

    ‏قوله : ( إن يدركني يومك ) ‏
    ‏إن شرطية والذي بعدها مجزوم . زاد في رواية يونس في التفسير حيا ولابن إسحاق إن أدركت ذلك اليوم يعني يوم الإخراج . ‏

    ‏قوله : ( مؤزرا ) ‏
    ‏بهمزة أي : قويا مأخوذ من الأزر وهو القوة وأنكر القزاز أن يكون في اللغة مؤزر من الأزر . وقال أبو شامة : يحتمل أن يكون من الإزار , أشار بذلك إلى تشميره في نصرته , قال الأخطل : قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم البيت . ‏

    ‏قوله : ( ثم لم ينشب ) ‏
    ‏بفتح الشين المعجمة أي لم يلبث . وأصل النشوب التعلق , أي : لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات . وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب , وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة , وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام . فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح , وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال : الواو في قوله : وفتر الوحي . ليست للترتيب , فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكرا بعد ذلك في أمر من الأمور فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع . وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان , وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع , وليحصل له التشوف إلى العود , فقد روى المؤلف في التعبير من طريق معمر ما يدل على ذلك . ‏
    ‏( فائدة ) : ‏
    ‏وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين , وبه جزم ابن إسحاق , وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر , وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة , وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان . وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول اقرأ و يا أيها المدثر عدم مجيء جبريل إليه , بل تأخر نزول القرآن فقط . ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد , ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي : أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء , ولم ينزل عليه القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل , فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة . وأخرجه ابن أبي خيثمة من وحي آخر مختصرا عن داود بلفظ : بعث لأربعين , ووكل به إسرافيل ثلاث سنين , ثم وكل به جبريل فعلى هذا فيحسن – بهذا المرسل إن ثبت – الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة , فقد قيل ثلاث عشرة , وقيل عشر , ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة , والله أعلم . وقد حكى ابن التين هذه القصة , لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل , وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال : لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل , انتهى . ولا يخفى ما فيه , فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم . وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه صلى الله عليه وسلم بمكة , فإنه قال : جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف , وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر , فمن قال مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة , ومن قال ثلاث عشرة أضافهما . وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت , وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما , وسيأتي مزيد لذلك في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى . ‏
    ‏قوله : ( قال ابن شهاب : أخبرني أبو سلمة ) ‏
    ‏إنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق , كأنه قال : أخبرني عروة بكذا , وأخبرني أبو سلمة بكذا , وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف , وأخطأ من زعم أن هذا معلق وإن كانت صورته صورة التعليق , ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة فإنها دالة على تقدم شيء عطفته , وقد تقدم قوله : عن ابن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال : قال ابن شهاب – أي : بالسند المذكور – وأخبرني أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا , ودل قوله عن فترة الوحي وقوله الملك الذي جاءني بحراء على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ , ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في التفسير عن أبي سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر , فجزم من جزم بأن ( يا أيها المدثر ) أول ما نزل , ورواية الزهري هذه الصحيحة ترفع هذا الإشكال , وسياق بسط القول في ذلك في تفسير سورة اقرأ . ‏

    ‏قوله : ( فرعبت منه ) ‏
    ‏بضم الراء وكسر العين , وللأصيلي بفتح الراء وضم العين أي : فزعت , دل على بقية بقيت معه من الفزع الأول ثم زالت بالتدريج . ‏

    ‏قوله : ( فقلت زملوني زملوني ) ‏
    ‏وفي رواية الأصيلي وكريمة زملوني مرة واحدة , وفي رواية يونس في التفسير فقلت دثروني فنزلت ( يا أيها المدثر قم فأنذر ) أي : حذر من العذاب من لم يؤمن بك ( وربك فكبر ) أي عظم ( وثيابك فطهر ) أي : من النجاسة , وقيل الثياب النفس , وتطهيرها اجتناب النقائص , والرجز هنا الأوثان كما سيأتي من تفسير الراوي عند المؤلف في التفسير , والرجز في اللغة : العذاب , وسمى الأوثان هنا رجزا ; لأنها سببه . ‏

    ‏قوله : ( فحمي الوحي ) ‏
    ‏أي جاء كثيرا , وفيه مطابقة لتعبيره عن تأخره بالفتور , إذ لم ينته إلى انقطاع كلي فيوصف بالضد وهو البرد . ‏

    ‏قوله : ( وتتابع ) ‏
    ‏تأكيد معنوي , ويحتمل أن يراد بحمي : قوي , وتتابع : تكاثر , وقد وقع في رواية الكشميهني وأبي الوقت وتواتر , والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير تخلل . ‏
    ‏( تنبيه ) ‏
    ‏خرج المصنف بالإسناد في التاريخ حديث الباب عن عائشة , ثم عن جابر بالإسناد المذكور هنا فزاد فيه بعد قوله تتابع : قال عروة – يعني بالسند المذكور إليه – وماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة , فقال النبي صلى الله عليه وسلم رأيت لخديجة بيتا من قصب , لا صخب فيه ولا نصب قال البخاري : يعني قصب اللؤلؤ . قلت : وسيأتي مزيد لهذا في مناقب خديجة إن شاء الله تعالى . ‏

    ‏قوله : ( تابعه ) ‏
    ‏الضمير يعود على يحيى بن بكير , ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف في قصة موسى . وفيه من اللطائف قوله عن الزهري : سمعت عروة . ‏

    ‏قوله : ( وأبو صالح ) ‏
    ‏هو عبد الله بن صالح كاتب الليث , وقد أكثر البخاري عنه من المعلقات , وعلق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبي صالح عنه . ورواية عبد الله بن صالح عن الليث لهذا الحديث أخرجها يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير , ووهم من زعم – كالدمياطي – أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحراني , فإنه لم يذكر من أسنده عن عبد الغفار وقد وجد في مسنده عن كاتب الليث . ‏

    ‏قوله : ( وتابعه هلال بن رداد ) ‏
    ‏بدالين مهملتين الأولى مثقلة , وحديثه في الزهريات للذهلي . ‏

    ‏قوله : ( وقال يونس ) ‏
    ‏يعني ابن يزيد الأيلي , ومعمر هو ابن راشد . ‏
    ‏( بوادره ) ‏
    ‏يعني أن يونس ومعمرا رويا هذا الحديث عن الزهري فوافقا عقيلا عليه , إلا أنهما قالا بدل قوله يرجف فؤاده ترجف بوادره , والبوادر جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق تضطرب عند فزع الإنسان , فالروايتان مستويتان في أصل المعنى ; لأن كلا منهما دال على الفزع , وقد بينا ما في رواية يونس ومعمر من المخالفة لرواية عقيل غير هذا في أثناء السياق , والله الموفق . وسيأتي بقية شرح هذا الحديث في تفسير سورة ( اقرأ باسم ربك ) إن شاء الله تعالى . ‏

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302374
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏ ‏حدثنا ‏ ‏موسى بن إسماعيل ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏أبو عوانة ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏موسى بن أبي عائشة ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏سعيد بن جبير ‏ ‏عن ‏ ‏ابن عباس ‏
    ‏في قوله تعالى ‏
    ‏لا تحرك به لسانك ‏ ‏لتعجل به ‏  
    ‏قال كان رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يعالج ‏ ‏من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه فقال ‏ ‏ابن عباس ‏ ‏فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يحركهما وقال ‏ ‏سعيد ‏ ‏أنا أحركهما كما رأيت ‏ ‏ابن عباس ‏ ‏يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى ‏
    ‏لا تحرك به لسانك ‏ ‏لتعجل به ‏ ‏إن علينا جمعه وقرآنه ‏  
    ‏قال جمعه لك في صدرك وتقرأه ‏
    ‏فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ‏  
    ‏قال فاستمع له وأنصت ‏
    ‏ثم إن علينا بيانه ‏  
    ‏ثم إن علينا أن تقرأه فكان رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏بعد ذلك إذا أتاه ‏ ‏جبريل ‏ ‏استمع فإذا انطلق ‏ ‏جبريل ‏ ‏قرأه النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏كما قرأه ‏
      
    ‏قوله : ( حدثنا موسى بن إسماعيل ) ‏
    ‏هو أبو سلمة التبوذكي , وكان من حفاظ المصريين . ‏

    ‏قوله : ( حدثنا أبو عوانة ) ‏
    ‏هو الوضاح بن عبد الله اليشكري مولاهم البصري , كان كتابه في غاية الإتقان . ‏
    ‏وموسى بن أبي عائشة ‏
    ‏لا يعرف اسم أبيه , وقد تابعه على بعضه عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير . ‏

    ‏قوله : ( كان مما يعالج ) ‏
    ‏المعالجة محاولة الشيء بمشقة , أي : كان العلاج ناشئا من تحريك الشفتين , أي : مبدأ العلاج منه , أو ما موصولة وأطلقت على من يعقل مجازا , هكذا قرره الكرماني , وفيه نظر ; لأن الشدة حاصلة له قبل التحرك , والصواب ما قاله ثابت السرقسطي أن المراد كان كثيرا ما يفعل ذلك , وورودهما في هذا كثير ومنه حديث الرؤيا كان مما يقول لأصحابه : من رأى منكم رؤيا ؟ ومنه قول الشاعر : ‏ ‏وإنا لمما نضرب الكبش ضربة ‏ ‏على وجهه يلقي اللسان من الفم ‏ ‏قلت : ويؤيده أن رواية المصنف في التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبي عائشة ولفظها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه . فأتى بهذا اللفظ مجردا عن تقدم العلاج الذي قدره الكرماني , فظهر ما قال ثابت , ووجه ما قال غيره أن من إذا وقع بعدها ما كانت بمعنى ربما , وهي تطلق على القليل والكثير وفي كلام سيبويه مواضع من هذا منها قوله : اعلم أنهم مما يحذفون كذا . والله أعلم . ومنه حديث البراء كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم مما نحب أن نكون عن يمينه الحديث , ومن حديث سمرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه : من رأى منكم رؤيا . ‏

    ‏قوله : ( فقال ابن عباس فأنا أحركهما ) ‏
    ‏جملة معترضة بالفاء , وفائدة هذا زيادة البيان في الوصف على القول , وعبر في الأول بقوله كان يحركهما وفي الثاني برأيت ; لأن ابن عباس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة ; لأن سورة القيامة مكية باتفاق , بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر , وإلى هذا جنح البخاري في إيراده هذا الحديث في بدء الوحي , ولم يكن ابن عباس إذ ذاك ولد ; لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين , لكن يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك بعد , أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم , والأول هو الصواب , فقد ثبت ذلك صريحا في مسند أبي داود الطيالسي قال : حدثنا أبو عوانة بسنده . وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع . ‏

    ‏قوله : ( فحرك شفتيه ) ‏

    ‏وقوله فأنزل الله ( لا تحرك به لسانك ) ‏
    ‏لا تنافي بينهما ; لأن تحريك الشفتين , بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان , أو اكتفى بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه ; لأنه الأصل في النطق إذ الأصل حركة الفم , وكل من الحركتين ناشئ عن ذلك , وقد مضى أن في رواية جرير في التفسير يحرك به لسانه وشفتيه فجمع بينهما , وكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء , قاله الحسن وغيره . ووقع في رواية للترمذي يحرك به لسانه يريد أن يحفظه وللنسائي يعجل بقراءته ليحفظه ولابن أبي حاتم يتلقى أوله , ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره وفي رواية الطبري عن الشعبي عجل يتكلم به من حبه إياه وكلا الأمرين مراد , ولا تنافي بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك , فأمر بأن ينصت حتى يقضى إليه وحيه , ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره , ونحوه قوله تعالى ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) أي بالقراءة . ‏

    ‏قوله : ( جمعه لك صدرك ) ‏
    ‏كذا في أكثر الروايات وفيه إسناد الجمع إلى الصدر بالمجاز , كقوله أنبت الربيع البقل , أي : أنبت الله في الربيع البقل , واللام في لك للتبيين أو للتعليل , وفي رواية كريمة والحموي جمعه لك في صدرك وهو توضيح للأول , وهذا من تفسير ابن عباس . وقال في تفسير ( فاتبع ) أي : فاستمع وأنصت , وفي تفسير ( بيانه ) أي : علينا أن تقرأه . ويحتمل أن يراد بالبيان بيان مجملاته وتوضيح مشكلاته , فيستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الصحيح في الأصول , والكلام في تفسير الآيات المذكورة أخرته إلى كتاب التفسير فهو موضعه . والله أعلم . ‏

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302376
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏عبدان ‏ ‏قال أخبرنا ‏ ‏عبد الله ‏ ‏قال أخبرنا ‏ ‏يونس ‏ ‏عن ‏ ‏الزهري ‏ ‏ح ‏ ‏و حدثنا ‏ ‏بشر بن محمد ‏ ‏قال أخبرنا ‏ ‏عبد الله ‏ ‏قال أخبرنا ‏ ‏يونس ‏ ‏ومعمر ‏ ‏عن ‏ ‏الزهري ‏ ‏نحوه ‏ ‏قال أخبرني ‏ ‏عبيد الله بن عبد الله ‏ ‏عن ‏ ‏ابن عباس ‏ ‏قال ‏
    ‏كان رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه ‏ ‏جبريل ‏ ‏وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أجود بالخير من الريح ‏ ‏المرسلة ‏
      

    قوله : ( حدثنا عبدان ) ‏
    ‏هو عبد الله بن عثمان المروزي أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك أخبرنا يونس هو ابن يزيد الأيلي . ‏

    ‏قوله : ( أخبرنا يونس ومعمر نحوه ) ‏
    ‏أي : أن عبد الله بن المبارك حدث به عبدان عن يونس وحده , وحدث به بشر بن محمد عن يونس ومعمر معا , أما باللفظ فعن يونس وأما بالمعنى فعن معمر . ‏

    ‏قوله ( عبيد الله ) ‏
    ‏هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الآتي في الحديث الذي بعده . ‏

    ‏قوله : ( أجود الناس ) ‏
    ‏بنصب أجود ; لأنها خبر كان , وقدم ابن عباس هذه الجملة على ما بعدها – وإن كانت لا تتعلق بالقرآن – على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها . ومعنى أجود الناس : أكثر الناس جودا , والجود الكرم , وهو من الصفات المحمودة . وقد أخرج الترمذي من حديث سعد رفعه إن الله جواد يحب الجود الحديث . وله في حديث أنس رفعه أنا أجود ولد آدم , وأجودهم بعدي رجل علم علما فنشر علمه , ورجل جاد بنفسه في سبيل الله وفي سنده مقال , وسيأتي في الصحيح من وجه آخر عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأجود الناس الحديث . ‏

    ‏قوله : ( وكان أجود ما يكون ) ‏
    ‏هو برفع أجود هكذا في أكثر الروايات , وأجود اسم كان وخبره محذوف , وهو نحو أخطب ما يكون الأمير في يوم الجمعة . أو هو مرفوع على أنه مبتدأ مضاف إلى المصدر وهو ما يكون وما مصدرية وخبره في رمضان , والتقدير أجود أكوان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان , وإلى هذا جنح البخاري في تبويبه في كتاب الصيام إذ قال باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان , وفي رواية الأصيلي أجود بالنصب على أنه خبر كان , وتعقب بأنه يلزم منه أن يكون خبرها اسمها , وأجيب بجعل اسم كان ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وأجود خبرها , والتقدير : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره , قال النووي : الرفع أشهر , والنصب جائز . وذكر أنه سأل ابن مالك عنه فخرج الرفع من ثلاثة أوجه والنصب من وجهين . وذكر ابن الحاجب في أماليه للرفع خمسة أوجه , توارد ابن مالك منها في وجهين وزاد ثلاثة ولم يعرج على النصب . قلت : ويرجح الرفع وروده بدون كان عند المؤلف في الصوم . ‏

    ‏قوله : ( فيدارسه القرآن ) ‏
    ‏قيل الحكمة فيه أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس , والغنى سبب الجود . والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي , وهو أعم من الصدقة . وأيضا فرمضان موسم الخيرات ; لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره , فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله في عباده . فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود . والعلم عند الله تعالى . ‏

    ‏قوله : ( فلرسول الله صلى الله عليه وسلم ) ‏
    ‏الفاء للسببية , واللام للابتداء وزيدت على المبتدأ تأكيدا , أو هي جواب قسم مقدر . والمرسلة أي : المطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح , وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة , وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه . ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث لا يسأل شيئا إلا أعطاه وثبتت هذه الزيادة في الصحيح من حديث جابر ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا . وقال النووي : في الحديث فوائد : منها الحث على الجود في كل وقت , ومنها الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح . وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير , وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه , واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان وكونها أفضل من سائر الأذكار , إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعلاه . فإن قيل : المقصود تجويد الحفظ , قلنا الحفظ كان حاصلا , والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس , وأنه يجوز أن يقال رمضان من غير إضافة غير ذلك مما يظهر بالتأمل . قلت : وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان ; لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث ابن عباس , فكان جبريل يتعاهده في كل سنة فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان , فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة رضي الله عنها . وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب والله أعلم بالصواب . ‏

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302377
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏أبو اليمان الحكم بن نافع ‏ ‏قال أخبرنا ‏ ‏شعيب ‏ ‏عن ‏ ‏الزهري ‏ ‏قال أخبرني ‏ ‏عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ‏ ‏أن ‏ ‏عبد الله بن عباس ‏ ‏أخبره أن ‏ ‏أبا سفيان بن حرب ‏ ‏أخبره ‏
    ‏أن ‏ ‏هرقل ‏ ‏أرسل إليه في ‏ ‏ركب ‏ ‏من ‏ ‏قريش ‏ ‏وكانوا تجارا ‏ ‏بالشأم ‏ ‏في المدة التي كان رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ماد ‏ ‏فيها ‏ ‏أبا سفيان ‏ ‏وكفار ‏ ‏قريش ‏ ‏فأتوه وهم ‏ ‏بإيلياء ‏ ‏فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء ‏ ‏الروم ‏ ‏ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال ‏ ‏أبو سفيان ‏ ‏فقلت أنا أقربهم نسبا فقال أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فوالله لولا الحياء من أن ‏ ‏يأثروا ‏ ‏علي كذبا لكذبت عنه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله قلت لا قال فهل كان من آبائه من ملك قلت لا قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فقلت بل ضعفاؤهم قال أيزيدون أم ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا قال فهل يغدر قلت لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف كان قتالكم إياه قلت الحرب بيننا وبينه ‏ ‏سجال ‏ ‏ينال منا وننال منه قال ماذا يأمركم قلت يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق ‏ ‏والعفاف ‏ ‏والصلة فقال للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل ‏ ‏يأتسي ‏ ‏بقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ‏ ‏ليذر ‏ ‏الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق ‏ ‏والعفاف ‏ ‏فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه ‏ ‏لتجشمت ‏ ‏لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ثم دعا بكتاب رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏الذي بعث به ‏ ‏دحية ‏ ‏إلى عظيم ‏ ‏بصرى ‏ ‏فدفعه إلى ‏ ‏هرقل ‏ ‏فقرأه فإذا فيه ‏ ‏بسم الله الرحمن الرحيم ‏ ‏من ‏ ‏محمد ‏ ‏عبد الله ورسوله إلى ‏ ‏هرقل ‏ ‏عظيم ‏ ‏الروم ‏ ‏سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك ‏ ‏بدعاية ‏ ‏الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن ‏ ‏توليت ‏ ‏فإن عليك إثم ‏ ‏الأريسيين ‏ ‏و ‏
    ‏يا ‏ ‏أهل الكتاب ‏ ‏تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ‏  
    ‏قال ‏ ‏أبو سفيان ‏ ‏فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده ‏ ‏الصخب ‏ ‏وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا لقد أمر أمر ‏ ‏ابن أبي كبشة ‏ ‏إنه يخافه ملك ‏ ‏بني الأصفر ‏ ‏فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام وكان ‏ ‏ابن الناظور ‏ ‏صاحب ‏ ‏إيلياء ‏ ‏وهرقل ‏ ‏سقفا ‏ ‏على ‏ ‏نصارى ‏ ‏الشأم ‏ ‏يحدث أن ‏ ‏هرقل ‏ ‏حين قدم ‏ ‏إيلياء ‏ ‏أصبح يوما ‏ ‏خبيث النفس ‏ ‏فقال بعض ‏ ‏بطارقته ‏ ‏قد استنكرنا هيئتك قال ‏ ‏ابن الناظور ‏ ‏وكان ‏ ‏هرقل ‏ ‏حزاء ‏ ‏ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن إلا ‏ ‏اليهود ‏ ‏فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى ‏ ‏مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من ‏ ‏اليهود ‏ ‏فبينما هم على أمرهم أتي ‏ ‏هرقل ‏ ‏برجل أرسل به ملك ‏ ‏غسان ‏ ‏يخبر عن خبر رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فلما استخبره ‏ ‏هرقل ‏ ‏قال اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن وسأله عن ‏ ‏العرب ‏ ‏فقال هم يختتنون فقال ‏ ‏هرقل ‏ ‏هذا ملك هذه الأمة قد ‏ ‏ظهر ‏ ‏ثم كتب ‏ ‏هرقل ‏ ‏إلى صاحب له ‏ ‏برومية ‏ ‏وكان نظيره في العلم وسار ‏ ‏هرقل ‏ ‏إلى ‏ ‏حمص ‏ ‏فلم يرم ‏ ‏حمص ‏ ‏حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي ‏ ‏هرقل ‏ ‏على خروج النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وأنه نبي فأذن ‏ ‏هرقل ‏ ‏لعظماء ‏ ‏الروم ‏ ‏في ‏ ‏دسكرة ‏ ‏له ‏ ‏بحمص ‏ ‏ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر ‏ ‏الروم ‏ ‏هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي ‏ ‏فحاصوا ‏ ‏حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى ‏ ‏هرقل ‏ ‏نفرتهم وأيس من الإيمان قال ردوهم علي وقال إني قلت مقالتي ‏ ‏آنفا ‏ ‏أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن ‏ ‏هرقل ‏
    ‏رواه ‏ ‏صالح بن كيسان ‏ ‏ويونس ‏ ‏ومعمر ‏ ‏عن ‏ ‏الزهري

    ‏قوله : ( قال حدثنا أبو اليمان ) ‏
    ‏في رواية الأصيلي وكريمة : حدثنا الحكم بن نافع , وهو هو , أخبرنا شعيب : هو ابن أبي حمزة دينار الحمصي , وهو من أثبات أصحاب الزهري . ‏

    ‏قوله : ( أن أبا سفيان ) ‏
    ‏هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف . ‏

    ‏قوله : ( هرقل ) ‏
    ‏هو ملك الروم , وهرقل : اسمه , وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف , ولقبه قيصر , كما يلقب ملك الفرس : كسرى ونحوه . ‏

    ‏قوله : ( في ركب ) ‏
    ‏جمع راكب كصحب وصاحب , وهم أولو الإبل , العشرة فما فوقها . والمعنى : أرسل إلى أبي سفيان حال كونه في جملة الركب , وذاك لأنه كان كبيرهم فلهذا خصه , وكان عدد الركب ثلاثين رجلا , رواه الحاكم في الإكليل . ولابن السكن : نحو من عشرين , وسمى منهم المغيرة بن شعبة في مصنف ابن أبي شيبة بسند مرسل , وفيه نظر ; لأنه كان إذ ذاك مسلما . ويحتمل أن يكون رجع حينئذ إلى قيصر ثم قدم المدينة مسلما . وقد وقع ذكره أيضا في أثر آخر في كتاب السير لأبي إسحاق الفزاري , وكتاب الأموال لأبي عبيد من طريق سعيد بن المسيب قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر . الحديث وفيه : فلما قرأ قيصر الكتاب قال : هذا كتاب لم أسمع بمثله . ودعا أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة وكانا تاجرين هناك , فسأل عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ‏
    ‏قوله : ( وكانوا تجارا ) بضم التاء وتشديد الجيم , أو كسرها والتخفيف جمع تاجر . ‏
    ‏قوله : ( في المدة ) يعني مدة الصلح بالحديبية , وسيأتي شرحها في المغازي , وكانت في سنة ست , وكانت مدتها عشر سنين كما في السيرة , وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر , ولأبي نعيم في مسند عبد الله بن دينار : كانت أربع سنين , وكذا أخرجه الحاكم في البيوع من المستدرك , والأول أشهر . لكنهم نقضوا , فغزاهم سنة ثمان وفتح مكة . وكفار قريش بالنصب مفعول معه . ‏
    ‏قوله ( فأتوه ) تقديره : أرسل إليهم في طلب إتيان الركب فجاء الرسول يطلب إتيانهم فأتوه , كقوله تعالى ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت ) أي : فضرب فانفجرت . ووقع عند المؤلف في الجهاد أن الرسول وجدهم ببعض الشام , وفي رواية لأبي نعيم في الدلائل تعيين الموضع وهو غزة . قال : وكانت وجه متجرهم . وكذا رواه ابن إسحاق في المغازي عن الزهري , وزاد في أوله عن أبي سفيان قال : كنا قوما تجارا , وكانت الحرب قد حصبتنا , فلما كانت الهدنة خرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش , فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا وقد حملني بضاعة . فذكره . وفيه : فقال هرقل لصاحب شرطته : قلب الشام ظهرا لبطن حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه . فوالله إني وأصحابي بغزة , إذ هجم علينا فساقنا جميعا . ‏

    ‏قوله : ( بإيلياء ) ‏
    ‏بهمزة مكسورة بعدها ياء أخيرة ساكنة ثم لام مكسورة ثم ياء أخيرة ثم ألف مهموزة , وحكى البكري فيها القصر , ويقال لها أيضا إليا بحذف الياء الأولى وسكون اللام حكاه البكري , وحكى النووي مثله لكن بتقديم الياء على اللام واستغربه , قيل : معناه بيت الله . وفي الجهاد عند المؤلف أن هرقل لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله . زاد ابن إسحاق عن الزهري أنه كان تبسط له البسط وتوضع عليها الرياحين فيمشي عليها , ونحوه لأحمد من حديث ابن أخي الزهري عن عمه . وكان سبب ذلك ما رواه الطبري وابن عبد الحكم من طرق متعاضدة ملخصها أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل , فخربوا كثيرا من بلاده , ثم استبطأ كسرى أميره فأراد قتله وتولية غيره , فاطلع أميره على ذلك فباطن هرقل واصطلح معه على كسرى وانهزم عنه بجنود فارس , فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكرا لله تعالى على ذلك . واسم الأمير المذكور شهر براز واسم الغير الذي أراد كسرى تأميره فرحان . ‏

    ‏قوله : ( فدعاهم في مجلسه ) ‏
    ‏أي : في حال كونه في مجلسه , وللمصنف في الجهاد فأدخلنا عليه , فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج . ‏

    ‏قوله : ( وحوله ) ‏
    ‏بالنصب ; لأنه ظرف مكان . ‏

    ‏قوله : ( عظماء ) ‏
    ‏جمع عظيم . ولابن السكن : فأدخلنا عليه وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان والروم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام على الصحيح , ودخل فيهم طوائف من العرب من تنوخ وبهراء وسليح وغيرهم من غسان كانوا سكانا بالشام , فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم فاستوطنوها فاختلطت أنسابهم . ‏

    ‏قوله : ( ثم دعاهم ودعا ترجمانه ) ‏
    ‏وللمستملي بالترجمان مقتضاه أنه أمر بإحضارهم , فلما حضروا استدناهم لأنه ذكر أنه دعاهم ثم دعاهم فينزل على هذا , ولم يقع تكرار ذلك إلا في هذه الرواية . والترجمان بفتح التاء المثناة وضم الجيم ورجحه النووي في شرح مسلم , ويجوز ضم التاء إتباعا , ويجوز فتح الجيم مع فتح أوله حكاه الجوهري , ولم يصرحوا بالرابعة وهي ضم أوله وفتح الجيم , وفي رواية الأصيلي وغيره بترجمانه يعني أرسل إليه رسولا أحضره صحبته , والترجمان المعبر عن لغة بلغة , وهو معرب وقيل عربي . ‏

    ‏قوله : ( فقال : أيكم أقرب نسبا ) ‏
    ‏أي : قال الترجمان على لسان هرقل . ‏

    ‏قوله : ( بهذا الرجل ) ‏
    ‏زاد ابن السكن : الذي خرج بأرض العرب يزعم أنه نبي . ‏

    ‏قوله : ( قلت أنا أقربهم نسبا ) ‏
    ‏في رواية ابن السكن : فقالوا هذا أقربنا به نسبا , هو ابن عمه أخي أبيه . وإنما كان أبو سفيان أقرب لأنه من بني عبد مناف , وقد أوضح ذلك المصنف في الجهاد بقوله : قال ما قرابتك منه ؟ قلت : هو ابن عمي . قال أبو سفيان : ولم يكن في الركب من بني عبد مناف غيري ا ه . وعبد مناف الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم وكذا لأبي سفيان , وأطلق عليه ابن عم لأنه نزل كلا منهما منزلة جده , فعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم أمية بن عبد شمس بن عبد مناف , وعلى هذا ففيما أطلق في رواية ابن السكن تجوز , وإنما خص هرقل الأقرب لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره ; ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب , وظهر ذلك في سؤاله بعد ذلك : كيف نسبه فيكم ؟ وقوله بهذا الرجل ضمن أقرب معنى أوصل فعداه بالباء , ووقع في رواية مسلم من هذا الرجل وهو على الأصل . وقوله الذي يزعم في رواية ابن إسحاق عن الزهري يدعي . وزعم : قال الجوهري بمعنى قال , وحكاه أيضا ثعلب وجماعة كما سيأتي في قصة ضمام في كتاب العلم . قلت : وهو كثير ويأتي موضع الشك غالبا . ‏

    ‏قوله : ( فاجعلوهم عند ظهره ) ‏
    ‏أي : لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب , وقد صرح بذلك الواقدي . وقوله إن كذبني بتخفيف الذال أي : إن نقل إلي الكذب . ‏
    ‏قوله : ( قال ) أي : أبو سفيان . وسقط لفظ قال من رواية كريمة وأبي الوقت فأشكل ظاهره , وبإثباتها يزول الإشكال . ‏

    ‏قوله : ( فوالله لولا الحياء من أن يأثروا ) ‏
    ‏أي : ينقلوا علي الكذب لكذبت عليه . وللأصيلي عنه أي : عن الإخبار بحاله . وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب إما بالأخذ عن الشرع السابق , أو بالعرف . وفي قوله يأثروا دون قوله يكذبوا دليل على أنه كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم , لكنه ترك ذلك استحياء وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابا . وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك ولفظه فوالله لو قد كذبت ما ردوا علي ولكني كنت امرأ سيدا أتكرم عن الكذب , وعلمت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عني ثم يتحدثوا به , فلم أكذبه . وزاد ابن إسحاق في روايته : قال أبو سفيان : فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف , يعني هرقل . ‏

    ‏قوله : ( كان أول ) ‏
    ‏هو بالنصب على الخبر , وبه جاءت الرواية , ويجوز رفعه على الإسمية . ‏

    ‏قوله : ( كيف نسبه فيكم ؟ ) ‏
    ‏أي : ما حال نسبه فيكم , أهو من أشرافكم أم لا ؟ فقال : هو فينا ذو نسب . فالتنوين فيه للتعظيم , وأشكل هذا على بعض الشارحين , وهذا وجهه . ‏

    ‏قوله : ( فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟ ) ‏
    ‏وللكشميهني والأصيلي بدل قبله مثله فقوله : منكم أي : من قومكم يعني قريشا أو العرب . ويستفاد منه أن الشافعي يعم ; لأنه لم يرد المخاطبين فقط . وكذا قوله فهل قاتلتموه ؟ وقوله بماذا يأمركم ؟ واستعمل قط بغير أداة النفي وهو نادر , ومنه قول عمر صلينا أكثر ما كنا قط وآمنه ركعتين ويحتمل أن يقال إن النفي مضمن فيه كأنه قال : هل قال هذا القول أحد أو لم يقله أحد قط . ‏

    ‏قوله : ( فهل كان من آبائه ملك ؟ ) ‏
    ‏ولكريمة والأصيلي وأبي الوقت بزيادة من الجارة , ولابن عساكر بفتح من وملك فعل ماض , والجارة أرجح لسقوطها من رواية أبي ذر , والمعنى في الثلاثة واحد . ‏

    ‏قوله : ( فأشراف الناس اتبعوه ) ‏
    ‏فيه إسقاط همزة الاستفهام وهو قليل , وقد ثبت للمصنف في التفسير ولفظه : أيتبعه أشراف الناس ؟ والمراد بالأشراف هنا أهل النخوة والتكبر منهم , لا كل شريف , حتى لا يرد مثل أبي بكر وعمر وأمثالهما ممن أسلم قبل هذا السؤال . ووقع في رواية ابن إسحاق : تبعه منا الضعفاء والمساكين , فأما ذوو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد . وهو محمول على الأكثر الأغلب . ‏

    ‏قوله : ( سخطة ) ‏
    ‏بضم أوله وفتحه , وأخرج بهذا من ارتد مكرها , أو لا لسخط لدين الإسلام بل لرغبة في غيره كحظ نفساني , كما وقع لعبيد الله بن جحش . ‏

    ‏قوله : ( هل كنتم تتهمونه بالكذب ؟ ) ‏
    ‏أي : على الناس وإنما عدل إلى السؤال عن التهمة عن السؤال عن نفس الكذب تقريرا لهم على صدقه ; لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها , ولهذا عقبه بالسؤال عن الغدر . ‏

    ‏قوله : ( ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا ) ‏
    ‏أي : أنتقصه به , على أن التنقيص هنا أمر نسبي , وذلك أن من يقطع بعدم غدره أرفع رتبة ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة , وقد كان معروفا عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر . ولما كان الأمر مغيبا – لأنه مستقبل – أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب , ولهذا أورده بالتردد , ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه . وقد صرح ابن إسحاق في روايته عن الزهري بذلك بقوله قال فوالله ما التفت إليها مني . ووقع في رواية أبي الأسود عن عروة مرسلا خرج أبو سفيان إلى الشام – فذكر الحديث , إلى أن قال – فقال أبو سفيان : هو ساحر كذاب . فقال هرقل : إني لا أريد شتمه , ولكن كيف نسبه – إلى أن قال – فهل يغدر إذا عاهد ؟ قال : لا , إلا أن يغدر في هدنته هذه . فقال : وما يخاف من هذه ؟ فقال : إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه . قال : إن كنتم بدأتم فأنتم أغدر . ‏

    ‏قوله : ( سجال ) ‏
    ‏بكسر أوله , أي : نوب , والسجل الدلو , والحرب اسم جنس , ولهذا جعل خبره اسم جمع . وينال أي : يصيب , فكأنه شبه المحاربين بالمستقين : يستقي هذا دلوا وهذا دلوا . وأشار أبو سفيان بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أحد , وقد صرح بذلك أبو سفيان يوم أحد في قوله يوم بيوم بدر , والحرب سجال ولم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بل نطق النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث أوس بن حذيفة الثقفي لما كان يحدث وفد ثقيف , أخرجه ابن ماجه وغيره . ووقع في مرسل عروة قال أبو سفيان : غلبنا مرة يوم بدر وأنا غائب , ثم غزوتهم في بيوتهم ببقر البطون وجدع الآذان وأشار بذلك إلى يوم أحد . ‏
    ‏قوله : ( بماذا يأمركم ) ؟ يدل على أن الرسول من شأنه أن يأمر قومه . ‏

    ‏قوله : ( يقول اعبدوا الله وحده ) ‏
    ‏فيه أن للأمر صيغة معروفة ; لأنه أتى بقوله اعبدوا الله في جواب ما يأمركم , وهو من أحسن الأدلة في هذه المسألة ; لأن أبا سفيان من أهل اللسان , وكذلك الراوي عنه ابن عباس , بل هو من أفصحهم وقد رواه عنه مقرا له . ‏

    ‏قوله : ( ولا تشركوا به شيئا ) ‏
    ‏سقط من رواية المستملي الواو فيكون تأكيدا لقوله وحده . ‏

    ‏قوله : ( واتركوا ما يقول آباؤكم ) ‏
    ‏هي كلمة جامعة لترك ما كانوا عليه في الجاهلية , وإنما ذكر الآباء تنبيها على عذرهم في مخالفتهم له ; لأن الآباء قدوة عند الفريقين , أي عبدة الأوثان والنصارى . ‏

    ‏قوله : ( ويأمرنا بالصلاة والصدق ) ‏
    ‏وللمصنف في رواية الصدقة بدل الصدق , ورجحها شيخنا شيخ الإسلام , ويقويها رواية المؤلف في التفسير الزكاة واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع , ويرجحها أيضا ما تقدم من أنهم كانوا يستقبحون الكذب فذكر ما لم يألفوه أولى . قلت : وفي الجملة ليس الأمر بذلك ممتنعا كما في أمرهم بوفاء العهد وأداء الأمانة , وقد كانا من مألوف عقلائهم , وقد ثبتا عند المؤلف في الجهاد من رواية أبي ذر عن شيخه الكشميهني والسرخسي , قال بالصلاة والصدق والصدقة وفي قوله : يأمرنا بعد قوله يقول اعبدوا الله إشارة إلى أن المغايرة بين الأمرين لما يترتب على مخالفهما , إذ مخالف الأول كافر , والثاني ممن قبل الأول عاص . ‏

    ‏قوله : ( فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها ) ‏
    ‏الظاهر أن إخبار هرقل بذلك بالجزم كان عن العلم المقرر عنده في الكتب السالفة . ‏

    ‏قوله : ( لقلت رجل تأسى بقول ) ‏
    ‏كذا للكشميهني , ولغيره يتأسى بتقديم الياء المثناة من تحت , وإنما لم يقل هرقل فقلت إلا في هذا وفي قوله هل كان من آبائه من ملك لأن هذين المقامين مقام فكر ونظر , بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنها مقام نقل . ‏

    ‏قوله : ( فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه ) ‏
    ‏هو بمعنى قول أبي سفيان ضعفاؤهم , ومثل ذلك يتسامح به لاتحاد المعنى . وقول هرقل وهم أتباع الرسل معناه أن أتباع الرسل في الغالب أهل الاستكانة لا أهل الاستكبار الذين أصروا على الشقاق بغيا وحسدا كأبي جهل وأشياعه , إلى أن أهلكهم الله تعالى , وأنقذ بعد حين من أراد سعادته منهم . ‏

    ‏قوله ( وكذلك الإيمان ) ‏
    ‏أي : أمر الإيمان ; لأنه يظهر نورا , ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وصيام وغيرها , ولهذا نزلت في آخر سني النبي صلى الله عليه وسلم ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) ومنه ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ) وكذا جرى لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم : لم يزالوا في زيادة حتى كمل بهم ما أراد الله من إظهار دينه وتمام نعمته , فله الحمد والمنة . ‏

    ‏قوله : ( حين يخالط بشاشة القلوب ) . ‏
    ‏كذا روي بالنصب على المفعولية والقلوب مضاف إليه , أي : يخالط الإيمان انشراح الصدور , وروي بشاشة القلوب بالضم والقلوب مفعول , أي : يخالط بشاشة الإيمان وهو شرحه القلوب التي يدخل فيها . زاد المصنف في الإيمان لا يسخطه أحد كما تقدم . وزاد ابن السكن في روايته في معجم الصحابة يزداد به عجبا وفرحا . وفي رواية ابن إسحاق وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه . ‏

    ‏قوله : ( وكذلك الرسل لا تغدر ) ‏
    ‏لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر , بخلاف من طلب الآخرة . ولم يعرج هرقل على الدسيسة التي دسها أبو سفيان كما تقدم . وسقط من هذه الرواية إيراد تقدير السؤال العاشر والذي بعده وجوابه , وقد ثبت الجميع في رواية المؤلف التي في الجهاد وسيأتي الكلام عليه ثم , إن شاء الله تعالى . ‏
    ‏( فائدة ) : ‏
    ‏قال المازني هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة , إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه ; لأنه قال بعد ذلك : قد كنت أعلم أنه خارج , ولم أكن أظن أنه منكم . وما أورده احتمالا جزم به ابن بطال ; وهو ظاهر . ‏

    ‏قوله : ( فذكرت أنه يأمركم ) ‏
    ‏ذكر ذلك بالاقتضاء ; لأنه ليس في كلام أبي سفيان ذكر الأمر بل صيغته . وقوله وينهاكم عن عبادة الأوثان مستفاد من قوله ولا تشركوا به شيئا , واتركوا ما يقول آباؤكم لأن مقولهم الأمر بعبادة الأوثان . ‏

    ‏قوله : ( أخلص ) ‏
    ‏بضم اللام أي : أصل , يقال خلص إلى كذا أي : وصل . ‏

    ‏قوله : ( لتجشمت ) ‏
    ‏بالجيم والشين المعجمة , أي : تكلفت الوصول إليه . وهذا يدل على أنه كان يتحقق أنه لا يسلم من القتل إن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم , واستفاد ذلك بالتجربة كما في قصة ضغاطر الذي أظهر لهم إسلامه فقتلوه . وللطبراني من طريق ضعيف عن عبد الله بن شداد عن دحية في هذه القصة مختصرا , فقال قيصر : أعرف أنه كذلك , ولكن لا أستطيع أن أفعل , إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم . وفي مرسل ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال : ويحك , والله إني لأعلم أنه نبي مرسل , ولكني أخاف الروم على نفسي , ولولا ذلك لاتبعته . لكن لو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي أرسل إليه أسلم تسلم وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم لو أسلم من كل ما يخافه . ولكن التوفيق بيد الله تعالى قوله لغسلت عن قدميه مبالغة في العبودية له والخدمة . زاد عبد الله بن شداد عن أبي سفيان لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه وهي تدل على أنه كان بقي عنده بعض شك . وزاد فيها ولقد رأيت جبهته تتحادر عرقا من كرب الصحيفة يعني لما قرئ عليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم . وفي اقتصاره على ذكر غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه – إذا وصل إليه سالما – لا ولاية ولا منصبا , وإنما يطلب ما تحصل له به البركة . وقوله وليبلغن ملكه ما تحت قدمي أي : بيت المقدس , وكنى بذلك لأنه موضع استقراره . أو أراد الشام كله لأن دار مملكته كانت حمص . ومما يقوي أن هرقل آثر ملكه على الإيمان واستمر على الضلال أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة بدون السنتين , ففي مغازي ابن إسحاق : وبلغ المسلمين لما نزلوا معان من أرض الشام أن هرقل نزل في مائة ألف من المشركين , فحكى كيفية الوقعة . وكذا روى ابن حبان في صحيحه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أيضا من تبوك يدعوه , وأنه قارب الإجابة , ولم يجب . فدل ظاهر ذلك على استمراره على الكفر , لكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه وخوفا من أن يقتله قومه . إلا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إني مسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كذب , بل هو على نصرانيته . وفي كتاب الأموال لأبي عبيد بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد الله المزني نحوه , ولفظه فقال : كذب عدو الله , ليس بمسلم . فعلى هذا إطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن – أي : أظهر التصديق – لكنه لم يستمر عليه ويعمل بمقتضاه , بل شح بملكه وآثر الفانية على الباقية . والله الموفق . ‏

    ‏قوله : ( ثم دعا ) ‏
    ‏أي : من وكل ذلك إليه , ولهذا عدي إلى الكتاب بالباء . والله أعلم . ‏

    ‏قوله : ( دحية ) ‏
    ‏بكسر الدال , وحكي فتحها لغتان , ويقال إنه الرئيس بلغة أهل اليمن , وهو ابن خليفة الكلبي , صحابي جليل كان أحسن الناس وجها , وأسلم قديما , وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر سنة ست بعد أن رجع من الحديبية بكتابه إلى هرقل , وكان وصوله إلى هرقل في المحرم سنة سبع , قاله الواقدي . ووقع في تاريخ خليفة أن إرسال الكتاب إلى هرقل كان سنة خمس , والأول أثبت , بل هذا غلط لتصريح أبي سفيان بأن ذلك كان في مدة الهدنة , والهدنة كانت في آخر سنة ست اتفاقا , ومات دحية في خلافة معاوية . وبصرى بضم أوله والقصر مدينة بين المدينة ودمشق , وقيل هي حوران , وعظيمها هو الحارث بن أبي شمر الغساني . وفي الصحابة لابن السكن أنه أرسل بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل مع عدي بن حاتم , وكان عدي إذ ذاك نصرانيا , فوصل به هو ودحية معا , وكانت وفاة الحارث المذكور عام الفتح . ‏

    ‏قوله : ( من محمد ) ‏
    ‏فيه أن السنة أن يبدأ الكتاب بنفسه , وهو قول الجمهور , بل حكى فيه النحاس إجماع الصحابة . والحق إثبات الخلاف . وفيه أن من التي لابتداء الغاية تأتي من غير الزمان والمكان كذا قاله أبو حيان , والظاهر أنها هنا أيضا لم تخرج من ذلك , لكن بارتكاب مجاز . زاد في حديث دحية : وعنده ابن أخ له أحمر أزرق سبط الرأس . وفيه : لما قرأ الكتاب سخر فقال : لا تقرأه , إنه بدأ بنفسه . فقال قيصر : لتقرأنه . فقرأه . وقد ذكر البزار في مسنده عن دحية الكلبي أنه هو ناول الكتاب لقيصر , ولفظه بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى قيصر فأعطيته الكتاب . ‏

    ‏قوله ( عظيم الروم ) ‏
    ‏فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة ; لأنه معزول بحكم الإسلام , لكنه لم يخله من إكرام لمصلحة التألف . وفي حديث دحية أن ابن أخي قيصر أنكر أيضا كونه لم يقل ملك الروم . ‏

    ‏قوله : ( سلام على من اتبع الهدى ) ‏
    ‏في رواية المصنف في الاستئذان السلام بالتعريف . وقد ذكرت في قصة موسى وهارون مع فرعون . وظاهر السياق يدل على أنه من جملة ما أمرا به أن يقولاه . فإن قيل : كيف يبدأ الكافر بالسلام ؟ فالجواب أن المفسرين قالوا : ليس المراد من هذا التحية , إنما معناه سلم من عذاب الله من أسلم . ولهذا جاء بعده أن العذاب على من كذب وتولى . وكذا جاء في بقية هذا الكتاب فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين . فمحصل الجواب أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدا وإن كان اللفظ يشعر به , لكنه لم يدخل في المراد لأنه ليس ممن اتبع الهدى فلم يسلم عليه . ‏

    ‏قوله : ( أما بعد ) ‏
    ‏في قوله أما معنى الشرط , وتستعمل لتفصيل ما يذكر بعدها غالبا , وقد ترد مستأنفة لا لتفصيل كالتي هنا , وللتفصيل والتقرير , وقال الكرماني : هي هنا للتفصيل وتقديره : أما الابتداء فهو اسم الله , وأما المكتوب فهو من محمد رسول الله . . إلخ , كذا قال . ولفظه بعد مبنية على الضم , وكان الأصل أن تفتح لو استمرت على الإضافة , لكنها قطعت عن الإضافة فبنيت على الضم , وسيأتي مزيد في الكلام عليها في كتاب الجمعة . ‏

    ‏قوله : ( بدعاية الإسلام ) ‏
    ‏بكسر الدال , من قولك دعا يدعو دعاية نحو شكا يشكو شكاية . ولمسلم بداعية الإسلام أي : بالكلمة الداعية إلى الإسلام , وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , والباء موضع إلى . وقوله أسلم تسلم غاية في البلاغ , وفيه نوع من البديع وهو الجناس الاشتقاقي . ‏

    ‏قوله : ( يؤتك ) ‏
    ‏جواب ثان للأمر . وفي الجهاد للمؤلف أسلم أسلم يؤتك بتكرار أسلم , فيحتمل التأكيد , ويحتمل أن يكون الأمر الأول للدخول في الإسلام والثاني للدوام عليه كما في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) الآية . وهو موافق لقوله تعالى ( أولئك يؤتون أجرهم مرتين ) الآية . وإعطاؤه الأجر مرتين لكونه كان مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم , ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه ومن جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه . وسيأتي التصريح بذلك في موضعه من حديث الشعبي من كتاب العلم إن شاء الله تعالى . واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذبائح ; لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل , وهم ممن دخل في النصرانية بعد التبديل . وقد قال له ولقومه ( يا أهل الكتاب ) فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب , خلافا لمن خص ذلك بالإسرائيليين أو بمن علم أن سلفه ممن دخل في اليهودية أو النصرانية قبل التبديل . والله أعلم . ‏

    ‏قوله : ( فإن توليت ) ‏
    ‏أي : أعرضت عن الإجابة إلى الدخول في الإسلام . وحقيقة التولي إنما هو بالوجه , ثم استعمل مجازا في الإعراض عن الشيء , وهي استعارة تبعية . ‏

    ‏قوله : ( الأريسيين ) ‏
    ‏هو جمع أريسي , وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل , وقد تقلب همزته ياء كما جاءت به رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما هنا , قال ابن سيده : الأريس الأكار , أي : الفلاح عند ثعلب , وعند كراع : الأريس هو الأمير , وقال الجوهري : هي لغة شامية , وأنكر ابن فارس أن تكون عربية , وقيل في تفسيره غير ذلك لكن هذا هو الصحيح هنا , فقد جاء مصرحا به في رواية ابن إسحاق عن الزهري بلفظ فإن عليك إثم الأكارين زاد البرقاني في روايته : يعني الحراثين , ويؤيده أيضا ما في رواية المدائني من طريق مرسلة فإن عليك إثم الفلاحين , وكذا عند أبي عبيد في كتاب الأموال من مرسل عبد الله بن شداد وإن لم تدخل في الإسلام فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام قال أبو عبيدة : المراد بالفلاحين أهل مملكته ; لأن كل من كان يزرع فهو عند العرب فلاح , سواء كان يلي ذلك بنفسه أو بغيره . قال الخطابي : أراد أن عليك إثم الضعفاء والأتباع إذا لم يسلموا تقليدا له ; لأن الأصاغر أتباع الأكابر . قلت : وفي الكلام حذف دل المعنى عليه وهو : فإن عليك مع إثمك إثم الأريسيين ; لأنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى , وهذا يعد من مفهوم الموافقة , ولا يعارض بقوله تعالى ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) لأن وزر الآثم لا يتحمله غيره , ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين : جهة فعله وجهة تسببه وقد ورد تفسير الأريسيين بمعنى آخر , فقال الليث بن سعد عن يونس فيما رواه الطبراني في الكبير من طريقه : الأريسيون العشارون يعني أهل المكس . والأول أظهر . وهذا إن صح أنه المراد , فالمعنى المبالغة في الإثم , ففي الصحيح في المرأة التي اعترفت بالزنا لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت . ‏

    ‏قوله : ( ويا أهل الكتاب إلخ ) هكذا ‏
    ‏وقع بإثبات الواو في أوله , وذكر القاضي عياض أن الواو ساقطة من رواية الأصيلي وأبي ذر , وعلى ثبوتها فهي داخلة على مقدر معطوف على قوله أدعوك , فالتقدير : أدعوك بدعاية الإسلام , وأقول لك ولأتباعك امتثالا لقول الله تعالى ( يا أهل الكتاب ) . ويحتمل أن تكون من كلام أبي سفيان ; لأنه لم يحفظ جميع ألفاظ الكتاب , فاستحضر منها أول الكتاب فذكره , وكذا الآية . وكأنه قال فيه : كان فيه كذا وكان فيه يا أهل الكتاب . فالواو من كلامه لا من نفس الكتاب , وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك قبل نزول الآية فوافق لفظه لفظها لما نزلت , والسبب في هذا أن هذه الآية نزلت في قصة وفد نجران , وكانت قصتهم سنة الوفود سنة تسع , وقصة سفيان كانت قبل ذلك سنة ست , وسيأتي ذلك واضحا في المغازي , وقيل : بل نزلت سابقة في أوائل الهجرة , وإليه يومئ كلام ابن إسحاق . وقيل : نزلت في اليهود . وجوز بعضهم نزولها مرتين , وهو بعيد . ‏
    ‏( فائدة ) : ‏
    ‏قيل في هذا دليل على جواز قراءة الجنب للآية أو الآيتين , وبإرسال بعض القرآن إلى أرض العدو وكذا بالسفر به . وأغرب ابن بطال فادعى أن ذلك نسخ بالنهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ويحتاج إلى إثبات التاريخ بذلك . ومحتمل أن يقال : إن المراد بالقرآن في حديث النهي عن السفر به أي : المصحف , وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه . وأما الجنب فيحتمل أن يقال إذا لم يقصد التلاوة جاز , على أن في الاستدلال بذلك من هذه القصة نظرا , فإنها واقعة عين لا عموم فيها , فيقيد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإبلاغ والإنذار كما في هذه القصة , وأما الجواز مطلقا حيث لا ضرورة فلا يتجه , وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الطهارة إن شاء الله تعالى . ‏
    ‏وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمنها هذا الكتاب على الأمر بقوله أسلم والترغيب بقوله تسلم ويؤتك والزجر بقوله فإن توليت والترهيب بقوله فإن عليك والدلالة بقوله يا أهل الكتاب وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى وكيف لا وهو كلام من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم . ‏

    ‏قوله : ( فلما قال ما قال ) ‏
    ‏يحتمل أن يشير بذلك إلى الأسئلة والأجوبة , ويحتمل أن يشير بذلك إلى القصة التي ذكرها ابن الناطور بعد , والضمائر كلها تعود على هرقل . والصخب اللغط , وهو اختلاط الأصوات في المخاصمة , زاد في الجهاد : فلا أدري ما قالوا . ‏

    ‏قوله : ( فقلت لأصحابي ) ‏
    ‏زاد في الجهاد : حين خلوت بهم . ‏

    ‏قوله : ( أمر ) ‏
    ‏هو بفتح الهمزة وكسر الميم أي : عظم , وسيأتي في تفسير سبحان . وابن أبي كبشة أراد به النبي صلى الله عليه وسلم لأن أبا كبشة أحد أجداده , وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض , قال أبو الحسن النسابة الجرجاني : هو جد وهب جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه . وهذا فيه نظر ; لأن وهبا جد النبي صلى الله عليه وسلم اسم أمه عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال , ولم يقل أحد من أهل النسب إن الأوقص يكنى أبا كبشة . وقيل هو جد عبد المطلب لأمه , وفيه نظر أيضا ; لأن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجي ولم يقل أحد من أهل النسب إن عمرو بن زيد يكنى أبا كبشة . ولكن ذكر ابن حبيب في المجتبى جماعة من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه ومن قبل أمه كل واحد منهم يكنى أبا كبشة , وقيل هو أبوه من الرضاعة واسمه الحارث بن عبد العزى قاله أبو الفتح الأزدي وابن ماكولا , وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن أبيه عن رجال من قومه أنه أسلم وكانت له بنت تسمى كبشة يكنى بها , وقال ابن قتيبة والخطابي والدارقطني : هو رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان فعبد الشعرى فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة , وكذا قاله الزبير , قال : واسمه وجز بن عامر بن غالب . ‏

    ‏قوله : ( إنه يخافه ) ‏
    ‏هو بكسر الهمزة استئنافا تعليليا لا بفتحها ولثبوت اللام في ليخافه في رواية أخرى . ‏

    ‏قوله : ( ملك بني الأصفر ) ‏
    ‏هم الروم , ويقال إن جدهم روم بن عيص تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر , حكاه ابن الأنباري . وقال ابن هشام في التيجان : إنما لقب الأصفر ; لأن جدته سارة زوج إبراهيم حلته بالذهب . ‏

    ‏قوله : ( فما زلت موقنا ) ‏
    ‏زاد في حديث عبد الله بن شداد عن أبي سفيان فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت أخرجه الطبراني . ‏

    ‏قوله : ( حتى أدخل الله علي الإسلام ) ‏
    ‏أي : فأظهرت ذلك اليقين , وليس المراد أن ذلك اليقين ارتفع . ‏

    ‏قوله : ( وكان ابن الناطور ) ‏
    ‏هو بالطاء المهملة , وفي رواية الحموي بالظاء المعجمة , وهو بالعربية حارس البستان . ووقع في رواية الليث عن يونس ابن ناطورا بزيادة ألف في آخره . فعلى هذا هو اسم أعجمي . ‏
    ‏( تنبيه ) : ‏
    ‏الواو في قوله وكان عاطفة , والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله فذكر الحديث , ثم قال الزهري وكان ابن الناطور يحدث فذكر هذه القصة فهي موصولة إلى ابن الناطور لا معلقة كما زعم بعض من لا عناية له بهذا الشأن , وكذلك أغرب بعض المغاربة فزعم أن قصة ابن الناطور مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان عنه ; لأنه لما رآها لا تصريح فيها بالسماع حملها على ذلك , وقد بين أبو نعيم في دلائل النبوة أن الزهري قال : لقيته بدمشق في زمن عبد الملك بن مروان . وأظنه لم يتحمل عنه ذلك إلا بعد أن أسلم , وإنما وصفه بكونه كان سقفا لينبه على أنه كان مطلعا على أسرارهم عالما بحقائق أخبارهم , وكأن الذي جزم بأنه من رواية الزهري عن عبيد الله اعتمد على ما وقع في سيرة ابن إسحاق فإنه قدم قصة ابن الناطور هذه على حديث أبي سفيان , فعنده عن عبيد الله عن ابن عباس أن هرقل أصبح خبيث النفس , فذكر نحوه . وجزم الحفاظ بما ذكرته أولا , وهذا مما ينبغي أن يعد فيما وقع من الإدراج أول الخبر . والله أعلم . ‏

    ‏قوله : ( صاحب إيلياء ) ‏
    ‏أي أميرها , هو منصوب على الاختصاص أو الحال , أو مرفوع على الصفة , وهي رواية أبي ذر , والإضافة التي فيه تقوم مقام التعريف . وقول من زعم أنها في تقدير الانفصال في مقام المنع , وهرقل معطوف على إيلياء , وأطلق عليه الصحبة له إما بمعنى التبع , وإما بمعنى الصداقة , وفيه استعمال صاحب في معنيين مجازي وحقيقي ; لأنه بالنسبة إلى إيلياء أمير وذاك مجاز , وبالنسبة إلى هرقل تابع وذلك حقيقة , قال الكرماني : وإرادة المعنيين الحقيقي والمجازي من لفظ واحد جائز عند الشافعي , وعند غيره محمول على إرادة معنى شامل لهما وهذا يسمى عموم المجاز . وقوله سقفا بضم السين والقاف كذا في رواية غير أبي ذر , وهو منصوب على أنه خبر كان , و يحدث خبر بعد خبر . وفي رواية الكشميهني سقف بكسر القاف على ما لم يسم فاعله , وفي رواية المستملي والسرخسي مثله لكن بزيادة ألف في أوله , والأسقف والسقف لفظ أعجمي ومعناه رئيس دين النصارى , وقيل عربي وهو الطويل في انحناء , وقيل ذلك للرئيس لأنه يتخاشع , وقال بعضهم : لا نظير له في وزنه إلا الأسرب وهو الرصاص , لكن حكى ابن سيده ثالثا وهو الأسكف للصانع , ولا يرد الأترج لأنه جمع والكلام إنما هو في المفرد , وعلى رواية أبي ذر يكون الخبر الجملة التي هي يحدث أن هرقل , فالواو في قوله وكان عاطفة والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله فذكر حديث أبي سفيان بطوله ثم قال الزهري : وكان ابن الناطور يحدث . وهذا صورة الإرسال . ‏

    ‏قوله : ( حين قدم إيلياء ) ‏
    ‏يعني في هذه الأيام , وهي عند غلبة جنوده على جنود فارس وإخراجهم , وكان ذلك في السنة التي اعتمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عمرة الحديبية , وبلغ المسلمين نصرة الروم على فارس ففرحوا . وقد ذكر الترمذي وغيره القصة مستوفاة في تفسير قوله تعالى ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) , وفي أول الحديث في الجهاد عند المؤلف الإشارة إلى ذلك . ‏

    ‏قوله : ( خبيث النفس ) ‏
    ‏أي : رديء النفس غير طيبها , أي : مهموما . وقد تستعمل في كسل النفس , وفي الصحيح لا يقولن أحدكم خبثت نفسي كأنه كره اللفظ , والمراد بالخطاب المسلمون , وأما في حق هرقل فغير ممتنع . وصرح في رواية ابن إسحاق بقولهم له لقد أصبحت مهموما . والبطارقة جمع بطريق بكسر أوله وهم خواص دولة الروم . ‏

    ‏قوله : ( حزاء ) ‏
    ‏بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة أي : كاهنا , يقال حزا بالتخفيف يحزو حزوا أي تكهن , وقوله ينظر في النجوم إن جعلتها خبرا ثانيا صح ; لأنه كان ينظر في الأمرين , وإن جعلتها تفسيرا للأول فالكهانة تارة تستند إلى إلقاء الشياطين وتارة تستفاد من أحكام النجوم , وكان كل من الأمرين في الجاهلية شائعا ذائعا , إلى أن أظهر الله الإسلام فانكسرت شوكتهم وأنكر الشرع الاعتماد عليهم , وكان ما اطلع عليه هرقل من ذلك بمقتضى حساب المنجمين أنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقران العلويين ببرج العقرب , وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلا أن تستوفي المثلثة بروجها في ستين سنة , فكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور , وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل بالوحي , وعند تمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضية التي جرت فتح مكة وظهور الإسلام , وفي تلك الأيام رأى هرقل ما رأى . ومن جملة ما ذكروه أيضا أن برج العقرب مائي وهو دليل ملك القوم الذين يختتنون , فكان ذلك دليلا على انتقال الملك إلى العرب , وأما اليهود فليسوا مرادا هنا لأن هذا لمن ينقل إليه الملك لا لمن انقضى ملكه . فإن قيل كيف ساغ للبخاري إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية أمر المنجمين والاعتماد على ما تدل عليه أحكامهم ؟ فالجواب أنه لم يقصد ذلك , بل قصد أن يبين أن الإشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق وعلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم محق أو مبطل إنسي أو جني , وهذا من أبدع ما يشير إليه عالم أو يجنح إليه محتج . وقد قيل إن الحزاء هو الذي ينظر في الأعضاء وفي خيلان الوجه فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة . وهذا إن ثبت فلا يلزم منه حصره في ذلك بل اللائق بالسياق في حق هرقل ما تقدم . ‏

    ‏قوله : ( ملك الختان ) ‏
    ‏بضم الميم وإسكان اللام , وللكشميهني بفتح الميم وكسر اللام . ‏

    ‏قوله : ( قد ظهر ) ‏
    ‏أي : غلب , يعني دله نظره في حكم النجوم على أن ملك الختان قد غلب , وهو كما قال ; لأن في تلك الأيام كان ابتداء ظهور النبي صلى الله عليه وسلم إذ صالح كفار مكة بالحديبية وأنزل الله تعالى عليه ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) إذ فتح مكة كان سببه نقض قريش العهد الذي كان بينهم بالحديبية , ومقدمة الظهور ظهور . ‏

    ‏قوله : ( من هذه الأمة ) ‏
    ‏أي : من أهل هذا العصر , وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز , وهذا بخلاف قوله بعد هذا ملك هذه الأمة قد ظهر , فإن مراده به العرب خاصة , والحصر في قولهم إلا اليهود هو بمقتضى علمهم ; لأن اليهود كانوا بإيلياء وهي بيت المقدس كثيرين تحت الذلة مع الروم , بخلاف العرب فإنهم وإن كان منهم من هو تحت طاعة ملك الروم كآل غسان لكنهم كانوا ملوكا برأسهم . ‏

    ‏قوله : ( فلا يهمنك ) ‏
    ‏بضم أوله , من أهم : أثار الهم . وقوله شأنهم أي : أمرهم . و مدائن جمع مدينة قال أبو علي الفارسي : من جعله فعيلة من قولك مدن بالمكان أي : أقام به همزه كقبائل , ومن جعله مفعلة من قولك دين أي : ملك لم يهمز كمعايش . انتهى وما ذكره في معايش هو المشهور , وقد روى خارجة عن نافع القاري الهمز في معايش , وقال القزاز : من همزها توهمها من فعيلة لشبهها بها في اللفظ . انتهى . ‏

    ‏قوله : ( فبينما هم على أمرهم ) ‏
    ‏أي : في هذه المشورة . ‏

    ‏قوله : ( أتي هرقل برجل ) ‏
    ‏لم يذكر من أحضره . وملك غسان هو صاحب بصرى الذي قدمنا ذكره , وأشرنا إلى أن ابن السكن روى أنه أرسل من عنده عدي بن حاتم , فيحتمل أن يكون هو المذكور والله أعلم . ‏

    ‏قوله : ( عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ‏
    ‏فسر ذلك ابن إسحاق في روايته فقال : خرج من بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي , فقد اتبعه ناس , وخالفه ناس , فكانت بينهم ملاحم في مواطن , فتركهم وهم على ذلك . فبين ما أجمل في حديث الباب لأنه يوهم أن ذلك كان في أوائل ما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم . وفي رواية أنه قال : جردوه , فإذا هو مختتن , فقال : هذا والله الذي رأيته , أعطه ثوبه . ‏

    ‏قوله : ( هم يختتنون ) ‏
    ‏في رواية الأصيلي هم مختتنون بالميم والأول أفيد وأشمل . ‏

    ‏قوله : ( هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ) ‏
    ‏كذا لأكثر الرواة بالضم ثم السكون , وللقابسي بالفتح ثم الكسر , ولأبي عن الكشميهني وحده يملك فعل مضارع , قال القاضي : أظنها ضمة الميم اتصلت بها فتصحفت , ووجهه السهيلي في أماليه بأنه مبتدأ وخبر , أي هذا المذكور يملك هذه الأمة . وقيل يجوز أن يكون يملك نعتا , أي هذا رجل يملك هذه الأمة . وقال شيخنا : يجوز أن يكون المحذوف هو الموصول على رأي الكوفيين ,

    #302378
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏الحميدي ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏سفيان ‏ ‏قال حدثني ‏ ‏إسماعيل بن أبي خالد ‏ ‏على غير ما حدثناه ‏ ‏الزهري ‏ ‏قال سمعت ‏ ‏قيس بن أبي حازم ‏ ‏قال سمعت ‏ ‏عبد الله بن مسعود ‏ ‏قال ‏
    ‏قال النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏لا ‏ ‏حسد ‏ ‏إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها

    ‏قوله : ( حدثنا إسماعيل بن أبي خالد على غير ما حدثناه الزهري ) ‏
    ‏يعني أن الزهري حدث سفيان بهذا الحديث بلفظ غير اللفظ الذي حدثه به إسماعيل , ورواية سفيان عن الزهري أخرجها المصنف في التوحيد عن علي بن عبد الله عنه قال : قال الزهري عن سالم . ورواها مسلم عن زهير بن حرب , وغيره عن سفيان بن عيينة قال : حدثنا الزهري عن سالم عن أبيه . ساقه مسلم تاما , واختصره البخاري . وأخرجه البخاري أيضا تاما في فضائل القرآن من طريق شعيب عن الزهري حدثني سالم بن عبد الله بن عمر . . . فذكره وسنذكر ما تخالفت فيه الروايات بعد إن شاء الله تعالى . ‏

    ‏قوله . ( قال سمعت ) ‏
    ‏القائل هو إسماعيل على ما حررناه . ‏

    ‏قوله : ( لا حسد ) ‏
    ‏الحسد تمني زوال النعمة عن المنعم عليه , وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه , والحق أنه أعم , وسببه أن الطباع مجبولة على حب الترفع على الجنس , فإذا رأى لغيره ما ليس له أحب أن يزول ذلك عنه له ليرتفع عليه , أو مطلقا ليساويه . وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم أو قول أو فعل . وينبغي لمن خطر له ذلك أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات . واستثنوا من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر أو فاسق يستعين بها على معاصي الله تعالى . فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته , وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة , وأطلق الحسد عليها مجازا , وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه , والحرص على هذا يسمى منافسة , فإن كان في الطاعة فهو محمود , ومنه – ( فليتنافس المتنافسون ) . وإن كان في المعصية فهو مذموم , ومنه : ولا تنافسوا . وإن كان في الجائزات فهو مباح , فكأنه قال في الحديث : لا غبطة أعظم – أو أفضل – من الغبطة في هذين الأمرين – ووجه الحصر أن الطاعات إما بدنية أو مالية أو كائنة عنهما , وقد أشار إلى البدنية بإتيان الحكمة والقضاء بها وتعليمها , ولفظ حديث ابن عمر : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار والمراد بالقيام به العمل به مطلقا , أعم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها ومن تعليمه , والحكم والفتوى بمقتضاه , فلا تخالف بين لفظي الحديثين . ولأحمد من حديث يزيد بن الأخنس السلمي : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار , ويتبع ما فيه . ويجوز حمل الحسد في الحديث على حقيقته على أن الاستثناء منقطع , والتقدير نفي الحسد مطلقا , لكن هاتان الخصلتان محمودتان , ولا حسد فيهما فلا حسد أصلا . ‏

    ‏قوله : ( إلا في اثنتين ) ‏
    ‏كذا في معظم الروايات اثنتين بتاء التأنيث , أي : لا حسد محمود في شيء إلا في خصلتين . وعلى هذا فقوله : رجل بالرفع , والتقدير خصلة رجل حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وللمصنف في الاعتصام : إلا في اثنين . وعلى هذا فقوله : رجل بالخفض على البدلية أي : خصلة رجلين , ويجوز النصب بإضمار أعني وهي رواية ابن ماجه . ‏

    ‏قوله : ( مالا ) ‏
    ‏نكره ليشمل القليل والكثير . ‏

    ‏قوله : ( فسلط ) ‏
    ‏كذا لأبي ذر , وللباقين فسلطه , وعبر بالتسليط لدلالته على قهر النفس المجبولة على الشح . ‏

    ‏قوله : ( هلكته ) ‏
    ‏بفتح اللام والكاف أي : إهلاكه , وعبر بذلك ليدل على أنه لا يبقي منه شيئا . وكمله بقوله : في الحق أي : في الطاعات ليزيل عنه إيهام الإسراف المذموم . ‏

    ‏قوله : ( الحكمة ) ‏
    ‏اللام للعهد ; لأن المراد بها القرآن على ما أشرنا إليه قبل , وقيل : المراد بالحكمة كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح . ‏
    ‏( فائدة ) : ‏
    ‏زاد أبو هريرة في هذا الحديث ما يدل على أن المراد بالحسد المذكور هنا الغبطة كما ذكرناه , ولفظه : فقال رجل ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان , فعملت مثل ما يعمل أورده المصنف في فضائل القرآن . وعند الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري – بفتح الهمزة وإسكان النون – أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول . . فذكر حديثا طويلا فيه استواء العالم في المال بالحق والمتمني في الأجر , ولفظه : وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا , فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت مثل ما يعمل فلان , فأجرهما سواء , وذكر في ضدهما : أنهما في الوزر سواء وقال فيه : حديث حسن صحيح . وإطلاق كونهما سواء يرد على الخطابي في جزمه بأن الحديث يدل على أن الغني إذا قام بشروط المال كان أفضل من الفقير . نعم يكون أفضل بالنسبة إلى من أعرض ولم يتمن ; لكن الأفضلية المستفادة منه هي بالنسبة إلى هذه الخصلة فقط لا مطلقا . وسيكون لنا عودة إلى البحث في هذه المسألة في حديث : الطاعم الشاكر كالصائم الصابر حيث ذكره المؤلف في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى . ‏

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302379
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏محمد بن العلاء ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏حماد بن أسامة ‏ ‏عن ‏ ‏بريد بن عبد الله ‏ ‏عن ‏ ‏أبي بردة ‏ ‏عن ‏ ‏أبي موسى ‏
    ‏عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال ‏ ‏مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل ‏ ‏الغيث ‏ ‏الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت ‏ ‏الكلأ ‏ ‏والعشب الكثير وكانت منها ‏ ‏أجادب ‏ ‏أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي ‏ ‏قيعان ‏ ‏لا تمسك ماء ولا تنبت ‏ ‏كلأ ‏ ‏فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ‏
    ‏قال أبو عبد الله ‏ ‏قال ‏ ‏إسحاق ‏ ‏وكان منها طائفة ‏ ‏قيلت الماء قاع يعلوه الماء ‏ ‏والصفصف المستوي من الأرض

    قوله : ( حدثنا محمد بن العلاء ) ‏
    ‏هو أبو كريب مشهور بكنيته أكثر من اسمه , وكذا شيخه أبو أسامة , وبريد بضم الموحدة وأبو بردة جده وهو ابن أبي موسى الأشعري . وقال في السياق عن أبي موسى ولم يقل عن أبيه تفننا , والإسناد كله كوفيون . ‏

    ‏قوله : ( مثل ) ‏
    ‏بفتح المثلثة والمراد به الصفة العجيبة لا القول السائر . ‏

    ‏قوله : ( الهدى ) ‏
    ‏أي : الدلالة الموصلة إلى المطلوب , والعلم المراد به معرفة الأدلة الشرعية . ‏

    ‏قوله : ( نقية ) ‏
    ‏كذا عند البخاري في جميع الروايات التي رأيناها بالنون من النقاء وهي صفة لمحذوف , لكن وقع عند الخطابي والحميدي وفي حاشية أصل أبي ذر ثغبة بمثلثة مفتوحة وغين معجمة مكسورة بعدها موحدة خفيفة مفتوحة , قال الخطابي : هي مستنقع الماء في الجبال والصخور . قال القاضي عياض : هذا غلط في الرواية , وإحالة للمعنى ; لأن هذا وصف الطائفة الأولى التي تنبت , وما ذكره يصلح وصفا للثانية التي تمسك الماء . قال : وما ضبطناه في البخاري من جميع الطرق إلا نقية بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء التحتانية , وهو مثل قوله في مسلم : طائفة طيبة . قلت : وهو في جميع ما وقفت عليه من المسانيد والمستخرجات كما عند مسلم وفي كتاب الزركشي . وروي : بقعة قلت : هو بمعنى طائفة , لكن ليس ذلك في شيء من روايات الصحيحين . ثم قرأت في شرح ابن رجب أن في رواية بالموحدة بدل النون قال : والمراد بها القطعة الطيبة كما يقال فلان بقية الناس , ومنه : ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ) . ‏

    ‏قوله : ( قبلت ) ‏
    ‏بفتح القاف وكسر الموحدة من القبول , كذا في معظم الروايات . ووقع عند الأصيلي : قيلت بالتحتانية المشددة , وهو تصحيف كما سنذكره بعد . ‏

    ‏قوله : ( الكلأ ) ‏
    ‏بالهمزة بلا مد . ‏

    ‏قوله : ( والعشب ) ‏
    ‏هو من ذكر الخاص بعد العام ; لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معا , والعشب للرطب فقط . ‏

    ‏قوله : ( إخاذات ) ‏
    ‏كذا في رواية أبي ذر بكسر الهمزة والخاء والذال المعجمتين وآخره مثناة من فوق قبلها ألف جمع إخاذة وهي الأرض التي تمسك الماء , وفي رواية غير أبي ذر وكذا في مسلم وغيره : أجادب بالجيم والدال المهملة بعدها موحدة جمع جدب بفتح الدال المهملة على غير قياس وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء . وضبطه المازري بالذال المعجمة . ووهمه القاضي . ورواها الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي كريب : أحارب بحاء وراء مهملتين , قال الإسماعيلي : لم يضبطه أبو يعلى وقال الخطابي : ليست هذه الرواية بشيء . قال : وقال بعضهم : أجارد بجيم وراء ثم دال مهملة جمع جرداء وهي البارزة التي لا تنبت , قال الخطابي : هو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية . وأغرب صاحب المطالع فجعل الجميع روايات , وليس في الصحيحين سوى روايتين فقط , وكذا جزم القاضي . ‏

    ‏قوله : ( فنفع الله بها ) ‏
    ‏أي بالإخاذات . وللأصيلي به أي بالماء . ‏

    ‏قوله : ( وزرعوا ) ‏
    ‏كذا له بزيادة زاي من الزرع , ووافقه أبو يعلى ويعقوب بن الأخرم وغيرهما عن أبي كريب , ولمسلم والنسائي وغيرهما عن أبي كريب : ورعوا بغير زاي من الرعي , قال النووي . كلاهما صحيح . ورجح القاضي رواية مسلم بلا مرجح ; لأن رواية زرعوا تدل على مباشرة الزرع لتطابق في التمثيل مباشرة طلب العلم , وإن كانت رواية رعوا مطابقة لقوله أنبتت , لكن المراد أنها قابلة للإنبات . وقيل إنه روي ووعوا بواوين , ولا أصل لذلك . وقال القاضي قوله : ورعوا راجع للأولى لأن الثانية لم يحصل منها نبات انتهى . ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضا بمعنى أن الماء الذي استقر بها سقيت منه أرض أخرى فأنبتت . ‏
    ‏قوله : ( فأصاب ) أي : الماء . وللأصيلي وكريمة أصابت أي : طائفة أخرى . ووقع كذلك صريحا عند النسائي . والمراد بالطائفة القطعة . ‏

    ‏قوله : ( قيعان ) ‏
    ‏بكسر القاف جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت . ‏

    ‏قوله : ( فقه ) ‏
    ‏بضم القاف أي صار فقيها . وقال ابن التين : رويناه بكسرها والضم أشبه . قال القرطبي وغيره : ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي في حال حاجتهم إليه , وكذا كان الناس قبل مبعثه , فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت . ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث , فمنهم العالم العامل المعلم . فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها . ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره , فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به , وهو المشار إليه بقوله : نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها . ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره , فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها . وإنما جمع المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما , وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها . والله أعلم . ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين , فالأول قد أوضحناه , والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه , ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم : من لم يرفع بذلك رأسا أي : أعرض عنه فلم ينتفع له ولا نفع . والثانية منه من لم يدخل في الدين أصلا , بل بلغه فكفر به , ومثالها من الأرض الصماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به , وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم : ولم يقبل هدى الله الذي جئت به . وقال الطيبي : بقي من أقسام الناس قسمان : أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه ولم يعلمه غيره , والثاني من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره . قلت : والأول داخل في الأول لأن النفع حصل في الجملة وإن تفاوتت مراتبه , وكذلك ما تنبته الأرض , فمنه ما ينتفع الناس به ومنه ما يصير هشيما . وأما الثاني فإن كان عمل الفرائض وأهمل النوافل فقد دخل في الثاني كما قررناه , وإن ترك الفرائض أيضا فهو فاسق لا يجوز الأخذ عنه , ولعله يدخل في عموم : من لم يرفع بذلك رأسا والله أعلم . ‏

    ‏قوله : ( قال إسحاق : وكان منها طائفة قيلت ) ‏
    ‏أي : بتشديد الياء التحتانية . أي : إن إسحاق وهو ابن راهويه حيث روى هذا الحديث عن أبي أسامة خالف في هذا الحرف . قال الأصيلي : هو تصحيف من إسحاق . وقال غيره : بل هو صواب ومعناه شربت , والقيل شرب نصف النهار , يقال قيلت الإبل أي شربت في القائلة . وتعقبه القرطبي بأن المقصود لا يختص بشرب القائلة . وأجيب بأن كون هذا أصله لا يمنع استعماله على الإطلاق تجوزا . وقال ابن دريد : قيل الماء في المكان المنخفض إذا اجتمع فيه , وتعقبه القرطبي أيضا بأنه يفسد التمثيل ; لأن اجتماع الماء إنما هو مثال الطائفة الثانية , والكلام هنا إنما هو في الأولى التي شربت وأنبتت . قال : والأظهر أنه تصحيف . ‏

    ‏قوله : ( قاع يعلوه الماء . والصفصف المستوي من الأرض ) ‏
    ‏هذا ثابت عند المستملي , وأراد به أن قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع وأنها الأرض التي يعلوها الماء ولا يستقر فيها , وإنما ذكر الصفصف معه جريا على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن , وقد يستطرد . ووقع في بعض النسخ المصطف بدل الصفصف وهو تصحيف . ‏
    ‏( تنبيه ) : ‏
    ‏وقع في رواية كريمة : وقال ابن إسحاق : وكان شيخنا العراقي يرجحها ولم أسمع ذلك منه , وقد وقع في نسخة الصغاني : وقال إسحاق عن أبي أسامة . وهذا يرجح الأول . ‏

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302380
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏شهاب بن عباد ‏ ‏حدثنا ‏ ‏إبراهيم بن حميد ‏ ‏عن ‏ ‏إسماعيل ‏ ‏عن ‏ ‏قيس ‏ ‏عن ‏ ‏عبد الله ‏ ‏قال ‏
    ‏قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها ‏
      

    قوله ( حدثنا شهاب بن عباد ) ‏
    ‏هو ابن عمر العبدي , وإبراهيم بن حميد هو الرؤاسي بضم الراء وتخفيف الهمزة ثم مهملة , وإسماعيل هو ابن أبي خالد , وقيس هو ابن أبي حازم , وعبد الله هو ابن مسعود , والسند كله كوفيون . ‏

    ‏قوله ( لا حسد إلا في اثنتين ) ‏
    ‏رجل بالجر ويجوز الرفع على الاستئناف والنصب بإضمار أعني . ‏

    ‏قوله ( على هلكته ) ‏
    ‏بفتحات أي على إهلاكه أي إنفاقه ( في الحق ) ‏

    ‏قوله ( وآخر آتاه الله حكمة ) ‏
    ‏في رواية ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد الماضية في كتاب العلم ورجل آتاه الله الحكمة وقد مضى شرحه مستوفى هناك وأن المراد بالحكمة القرآن في حديث ابن عمر , أو أعم من ذلك , وضابطها ما منع الجهل وزجر عن القبح . قال ابن المنير : المراد بالحسد هنا الغبطة , وليس المراد بالنفي حقيقته وإلا لزم الخلف , لأن الناس حسدوا في غير هاتين الخصلتين وغبطوا من فيه سواهما فليس هو خبرا , وإنما المراد به الحكم ومعناه حصر المرتبة العليا من الغبطة في هاتين الخصلتين فكأنه قال هما آكد القربات التي يغبط بها , وليس المراد نفي أصل الغبطة مما سواهما فيكون من مجاز التخصيص , أي لا غبطة كاملة التأكيد لتأكيد أجر متعلقها إلا الغبطة بهاتين الخصلتين . وقال الكرماني : الخصلتان المذكورتان هنا غبطة لا حسد ; لكن قد يطلق أحدهما على الآخر , أو المعنى لا حسد إلا فيهما , وما فيهما ليس بحسد فلا حسد فهو كما قيل في قوله تعالى ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) وفي الحديث الترغيب في ولاية القضاء لمن استجمع شروطه وقوي على أعمال الحق ووجد له أعوانا لما فيه من الأمر بالمعروف ونصر المظلوم وأداء الحق لمستحقه وكف يد الظالم والإصلاح بين الناس وكل ذلك من القربات , ولذلك تولاه الأنبياء ومن بعدهم من الخلفاء الراشدين , ومن ثم اتفقوا على أنه من فروض الكفاية , لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه , فقد أخرج البيهقي بسند قوي : أن أبا بكر لما ولي الخلافة ولى عمر القضاء , وبسند آخر قوي أن عمر استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء , وكتب عمر إلى عماله : استعملوا صالحيكم على القضاء وأكفوهم . وبسند آخر لين أن معاوية سأل أبا الدرداء وكان يقضي بدمشق , من لهذا الأمر بعدك , قال فضالة بن عبيد : وهؤلاء من أكابر الصحابة وفضلائهم . وإنما فر منه من فر خشية العجز عنه وعند عدم المعين عليه . وقد يتعارض أمر حيث يقع تولية من يشتد به الفساد إذا ا امتنع المصلح والله المستعان . وهذا حيث يكون هناك غيره , ومن ثم كان السلف يمتنعون منه ويفرون إذا طلبوا له . ‏
    ‏واختلفوا هل يستحب لمن استجمع شرائطه وقوي عليه أو لا ؟ والثاني قول الأكثر لما فيه من الخطر والغرر , ولما ورد فيه من التشديد . وقال بعضهم : إن كان من أهل العلم وكان خاملا بحيث لا يحمل عنه العلم أو كان محتاجا وللقاضي رزق من جهة ليست بحرام استحب له ليرجع إليه في الحكم بالحق وينتفع بعلمه , وإن كان مشهورا فالأولى له الإقبال على العلم والفتوى , وأما إن لم يكن في البلد من يقوم مقامه فإنه يتعين عليه لكونه من فروض الكفاية لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه . وعن أحمد : لا يأثم لأنه لا يجب عليه إذا أضر به نفع غيره ولا سيما من لا يمكنه عمل الحق لانتشار الظلم .

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302381
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏عمرو بن عون ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏خالد ‏ ‏عن ‏ ‏يونس ‏ ‏عن ‏ ‏الحسن ‏ ‏عن ‏ ‏أبي بكرة ‏ ‏قال ‏
    ‏كنا عند رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فانكسفت الشمس فقام النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يجر رداءه حتى دخل المسجد فدخلنا فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس فقال ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم ‏
      

    ‏قوله : ( حدثنا خالد ) ‏
    ‏هو ابن عبد الله الطحان , ويونس هو ابن عبيد , والإسناد كله بصريون , وترجمة الحسن عن أبي بكرة متصلة عند البخاري منقطعة عند أبي حاتم والدارقطني , وسيأتي التصريح بالإخبار فيه بعد أربعة أبواب وهو يؤيد صنيع البخاري . ‏

    ‏قوله : ( فانكسفت ) ‏
    ‏يقال كسفت الشمس بفتح الكاف وانكسفت بمعنى , وأنكر القزاز انكسفت وكذا الجوهري حيث نسبه للعامة والحديث يرد عليه , وحكي كسفت بضم الكاف وهو نادر . ‏

    ‏قوله : ( فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه ) ‏
    ‏زاد في اللباس من وجه آخر عن يونس مستعجلا وللنسائي من رواية يزيد بن زريع عن يونس من العجلة ولمسلم من حديث أسماء كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففزع فأخطأ بدرع حتى أدرك بردائه يعني أنه أراد لبس ردائه فلبس الدرع من شغل خاطره بذلك , واستدل به على أن جر الثوب لا يذم إلا ممن قصد به الخيلاء ووقع في حديث أبي موسى بيان السبب في الفزع كما سيأتي . ‏

    ‏قوله : ( فصلى بنا ركعتين ) ‏
    ‏زاد النسائي كما تصلون واستدل به من قال إن صلاة الكسوف كصلاة النافلة , وحمله ابن حبان والبيهقي على أن المعنى كما تصلون في الكسوف , لأن أبا بكرة خاطب بذلك أهل البصرة , وقد كان ابن عباس علمهم أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان كما روى ذلك الشافعي وابن أبي شيبة وغيرهما , ويؤيد ذلك أن في رواية عبد الوارث عن يونس الآتية في أواخر الكسوف أن ذلك وقع يوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم , وقد ثبت في حديث جابر عند مسلم مثله وقال فيه إن في كل ركعة ركوعين فدل ذلك على اتحاد القصة , وظهر أن رواية أبي بكرة مطلقة . وفي رواية جابر زيادة بيان في صفة الركوع , والأخذ بها أولى . ووقع في أكثر الطرق عن عائشة أيضا أن في كل ركعة ركوعين وعند ابن خزيمة من حديثها أيضا أن ذلك كان يوم مات إبراهيم عليه السلام . ‏

    ‏قوله : ( حتى انجلت ) ‏
    ‏استدل به على إطالة الصلاة حتى يقع الانجلاء , وأجاب الطحاوي بأنه قال فيه فصلوا وادعوا فدل على أنه إن سلم من الصلاة قبل الانجلاء يتشاغل بالدعاء حتى تنجلي , وقرره ابن دقيق العيد بأنه جعل الغاية لمجموع الأمرين , ولا يلزم من ذلك أن يكون غاية لكل منهما على انفراده فجاز أن يكون الدعاء ممتدا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة , فيصير غاية للمجموع , ولا يلزم منه تطويل الصلاة ولا تكريرها . وأما ما وقع عند النسائي من حديث النعمان بن بشير قال كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت فإن كان محفوظا احتمل أن يكون معنى قوله ركعتين أي ركوعين , وقد وقع التعبير عن الركوع بالركعة في حديث الحسن خسف القمر وابن عباس بالبصرة فصلى ركعتين في كل ركعة ركعتان الحديث أخرجه الشافعي , وأن يكون السؤال وقع بالإشارة فلا يلزم التكرار , وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي قلابة أنه صلى الله عليه وسلم كان كلما ركع ركعة أرسل رجلا ينظر هل انجلت فتعين الاحتمال المذكور , وإن ثبت تعدد القصة زال الإشكال أصلا . ‏

    ‏قوله : ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الشمس ) ‏
    ‏زاد في رواية ابن خزيمة فلما كشف عنا خطبنا فقال واستدل به على أن الانجلاء لا يسقط الخطبة كما سيأتي . ‏

    ‏قوله : ( لموت أحد ) ‏
    ‏في رواية عبد الوارث الآتية بيان سبب هذا القول ولفظه وذلك أن ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم يقال له إبراهيم مات فقال الناس في ذلك وفي رواية مبارك بن فضالة عند ابن حبان فقال الناس : إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم , ولأحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان من رواية أبي قلابة عن النعمان بن بشير قال انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه حتى أتى المسجد , فلم يزل يصلي حتى انجلت , فلما انجلت قال : إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء , وليس كذلك الحديث . وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض , وهو نحو قوله في الحديث الماضي في الاستسقاء يقولون مطرنا بنوء كذا قال الخطابي : كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر , فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل , وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما . وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الشفقة على أمته وشدة الخوف من ربه , وسيأتي لذلك مزيد بيان . ‏

    ‏قوله : ( فإذا رأيتموها ) ‏
    ‏في رواية كريمة رأيتموهما بالتثنية , وسيأتي القول فيه إن شاء الله تعالى . ‏

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302382
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏عبد الله بن محمد ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏هاشم بن القاسم ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏شيبان أبو معاوية ‏ ‏عن ‏ ‏زياد بن علاقة ‏ ‏عن ‏ ‏المغيرة بن شعبة ‏ ‏قال ‏
    ‏كسفت الشمس على عهد رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يوم مات ‏ ‏إبراهيم ‏ ‏فقال الناس كسفت الشمس لموت ‏ ‏إبراهيم ‏ ‏فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله ‏
      

    ‏قوله : ( حدثنا عبد الله بن محمد ) ‏
    ‏هو المسندي , وهاشم هو أبو النضر وشيبان هو النحوي . ‏

    ‏قوله : ( يوم مات إبراهيم ) ‏
    ‏يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم , وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة , فقيل في ربيع الأول وقيل في رمضان وقيل في ذي الحجة , والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر وقيل في رابع عشرة , ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بمكة في الحج , وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف , نعم قيل إنه مات سنة تسع فإن ثبت يصح , وجزم النووي بأنها كانت سنة الحديبية , ويجاب بأنه كان يومئذ بالحديبية ورجع منها في آخر الشهر , وفيه رد على أهل الهيئة لأنهم يزعمون أنه لا يقع في الأوقات المذكورة , وقد فرض الشافعي وقوع العيد والكسوف معا . واعترضه بعض من اعتمد على قول أهل الهيئة , وانتدب أصحاب الشافعي لدفع قول المعترض فأصابوا . ‏

    ‏قوله : ( فإذا رأيتم ) ‏
    ‏أي شيئا من ذلك , وفي رواية الإسماعيلي فإذا رأيتم ذلك وسيأتي من وجه آخر بعد أبواب فإذا رأيتموها . ‏
    ‏( تنبيه ) : ‏
    ‏ابتدأ البخاري أبواب الكسوف بالأحاديث المطلقة في الصلاة بغير تقييد بصفة إشارة منه إلى أن ذلك يعطي أصل الامتثال , وإن كان إيقاعها على الصفة المخصوصة عنده أفضل , وبهذا قال أكثر العلماء . ووقع لبعض الشافعية كالبندنيجي أن صلاتها ركعتين كالنافلة لا يجزئ , والله أعلم .

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302384
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏قتيبة بن سعيد ‏ ‏حدثنا ‏ ‏مغيرة بن عبد الرحمن القرشي ‏ ‏عن ‏ ‏أبي الزناد ‏ ‏عن ‏ ‏الأعرج ‏ ‏عن ‏ ‏أبي هريرة ‏ ‏رضي الله عنه ‏ ‏قال ‏
    ‏قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش ‏ ‏إن رحمتي غلبت غضبي ‏
      

    قوله : ( لما قضى الله الخلق ) ‏
    ‏أي خلق الخلق كقوله تعالى ( فقضاهن سبع سماوات ) أو المراد أوجد جنسه , وقضى يطلق بمعنى حكم وأتقن وفرغ وأمضى . ‏

    ‏قوله : ( كتب في كتابه ) ‏
    ‏أي أمر القلم أن يكتب في اللوح المحفوظ , وقد تقدم في حديث عبادة بن الصامت قريبا فقال للقلم اكتب فجرى بما هو كائن ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب اللفظ الذي قضاه , وهو كقوله تعالى ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) . ‏

    ‏قوله : ( فهو عنده فوق العرش ) ‏
    ‏قيل معناه دون العرش , وهو كقوله تعالى ( بعوضة فما فوقها ) , والحامل على هذا التأويل استبعاد أن يكون شيء من المخلوقات فوق العرش , ولا محذور في إجراء ذلك على ظاهره لأن العرش خلق من خلق الله , ويحتمل أن يكون المراد بقوله فهو عنده أي ذكره أو علمه فلا تكون العندية مكانية بل هي إشارة إلى كمال كونه مخفيا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم , وحكى الكرماني أن بعضهم زعم أن لفظ فوق زائد كقوله : ( فإن كن نساء فوق اثنتين ) والمراد اثنتان فصاعدا , ولم يتعقبه وهو متعقب , لأن محل دعوى الزيادة ما إذا بقي الكلام مستقيما مع حذفها كما في الآية , وأما في الحديث فإنه يبقى مع الحذف , فهو عنده العرش وذلك غير مستقيم . ‏

    ‏قوله : ( إن رحمتي ) ‏
    ‏بفتح إن على أنها بدل من كتب , وبكسرها على حكاية مضمون الكتاب ‏

    ‏قوله : ( غلبت ) ‏
    ‏في رواية شعيب عن أبي الزناد في التوحيد سبقت بدل غلبت , والمراد من الغضب لازمه وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب , لأن السبق والغلبة باعتبار التعلق , أي تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب , لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة وأما الغضب فإنه متوقف على سابقة عمل من العبد الحادث , وبهذا التقرير يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن , كمن يدخل النار من الموحدين ثم يخرج بالشفاعة وغيرها . وقيل معنى الغلبة الكثرة والشمول , تقول غلب على فلان الكرم أي أكثر أفعاله , وهذا كله بناء على أن الرحمة والغضب من صفات الذات , وقال بعض العلماء الرحمة والغضب من صفات الفعل لا من صفات الذات , ولا مانع من تقدم بعض الأفعال على بعض فتكون الإشارة بالرحمة إلى إسكان آدم الجنة أول ما خلق مثلا ومقابلها ما وقع من إخراجه منها , وعلى ذلك استمرت أحوال الأمم بتقديم الرحمة في خلقهم بالتوسع عليهم من الرزق وغيره , ثم يقع بهم العذاب على كفرهم . وأما ما أشكل من أمر من يعذب من الموحدين فالرحمة سابقة في حقهم أيضا , ولولا وجودها لخلدوا أبدا . وقال الطيبي في سبق الرحمة إشارة إلى أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب وأنها تنالهم من غير استحقاق وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق , فالرحمة تشمل الشخص جنينا ورضيعا وفطيما وناشئا قبل أن يصدر منه شيء من الطاعة , ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك .

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302385
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏محمد بن المثنى ‏ ‏حدثنا ‏ ‏عبد الوهاب ‏ ‏حدثنا ‏ ‏أيوب ‏ ‏عن ‏ ‏محمد بن سيرين ‏ ‏عن ‏ ‏ابن أبي بكرة ‏ ‏عن ‏ ‏أبي بكرة ‏ ‏رضي الله عنه ‏
    ‏عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال ‏ ‏الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ‏ ‏مضر ‏ ‏الذي بين جمادى وشعبان ‏
      

    حديث أبي بكرة أن الزمان قد استدار كهيئته وسيأتي بأتم من هذا السياق في آخر المغازي في الكلام على حجة الوداع , ويأتي شرحه في تفسير براءة , ومضى شرح أكثره في العلم وبعضه في الحج . ‏

    ‏قوله : ( عن محمد بن سيرين عن ابن أبي بكرة عن أبي بكرة ) ‏
    ‏اسم ابن أبي بكرة عبد الرحمن كما تقدم في باب رب مبلغ أوعى من سامع في كتاب العلم من وجه آخر عن أيوب , وذكر أبو علي الجياني أنه سقط من نسخة الأصيلي هنا عن ابن أبي بكرة وثبت لسائر الرواة عن الفربري , قلت : وكذا ثبت في رواية النسفي عن البخاري , قال الجياني : ووقع في رواية القابسي هنا عن أيوب عن محمد بن أبي بكرة , وهو وهم فاحش . قلت : وافق الأصيلي لكن صحف عن فصارت ابن فلذلك وصفه بفحش الوهم وسيأتي هذا الحديث بالسند المذكور هنا في باب حجة الوداع من كتاب المغازي على الصواب للجماعة أيضا حتى الأصيلي , واستمر القابسي على وهمه فقال هناك أيضا عن محمد بن أبي بكرة . ‏

    ‏قوله : ( كهيئته ) ‏
    ‏الكاف صفة مصدر محذوف تقديره استدار استدارة مثل صفته يوم خلق السماء . والزمان اسم لقليل الوقت وكثيره , وزعم يوسف بن عبد الملك في كتابه تفضيل الأزمنة أن هذه المقالة صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم في شهر مارس وهو آذار وهو برمهات بالقبطية , وفيه يستوي الليل والنهار عند حلول الشمس برج الحمل .

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302387
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثنا ‏ ‏مكي بن إبراهيم ‏ ‏حدثنا ‏ ‏ابن جريج ‏ ‏عن ‏ ‏عطاء ‏ ‏عن ‏ ‏عائشة ‏ ‏رضي الله عنها ‏ ‏قالت ‏
    ‏كان النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏إذا رأى ‏ ‏مخيلة ‏ ‏في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا أمطرت السماء ‏ ‏سري ‏ ‏عنه فعرفته ‏ ‏عائشة ‏ ‏ذلك فقال النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ما أدري لعله كما قال قوم ‏
    ‏((فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم ‏))  

    حديث عائشة وقد تقدم شرحه في كتاب الاستسقاء , ‏
    ‏وقوله فيه ( مخيلة ) ‏
    ‏بفتح الميم وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة هي السحابة التي يخال فيها المطر . ‏

    ‏قوله : ( فإذا أمطرت السماء سري عنه ) ‏
    ‏فيه رد على من زعم أنه لا يقال أمطرت إلا في العذاب , وأما الرحمة فيقال مطرت , وقوله سري عنه بضم المهملة وتشديد الراء بلفظ المجهول أي كشف عنه . وفي الحديث تذكر ما يذهل المرء عنه مما وقع للأمم الخالية , والتحذير من السير في سبيلهم خشية من وقوع مثل ما أصابهم . وفيه شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم كما وصفه الله تعالى . قال ابن العربي : فإن قيل كيف يخشى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب القوم وهو فيهم مع قوله تعالى ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) والجواب أن الآية نزلت بعد هذه القصة , ويتعين الحمل على ذلك لأن الآية دلت على كرامة له صلى الله عليه وسلم ورفعه فلا يتخيل انحطاط درجته أصلا . قلت : ويعكر عليه أن آية الأنفال كانت في المشركين من أهل بدر , وفي حديث عائشة إشعار بأنه كان يواظب على ذلك من صنيعه , كان إذا رأى فعل كذا . والأولى في الجواب أن يقال إن في آية الأنفال احتمال التخصيص بالمذكورين أو بوقت دون وقت أو مقام الخوف يقتضي غلبة عدم الأمن من مكر الله , وأولى من الجميع أن يقال خشى على من ليس هو فيهم أن يقع بهم العذاب , أما المؤمن فشفقته عليه لإيمانه , وأما الكافر فلرجاء إسلامه , وهو بعث رحمة للعالمين .

    سبحان الحي الذي لا يموت

    #302388
    أبو ناصر
    مشارك

    ‏حدثني ‏ ‏محمد بن أبي غالب ‏ ‏حدثنا ‏ ‏محمد بن إسماعيل ‏ ‏حدثنا ‏ ‏معتمر ‏ ‏سمعت ‏ ‏أبي ‏ ‏يقول حدثنا ‏ ‏قتادة ‏ ‏أن ‏ ‏أبا رافع ‏ ‏حدثه أنه سمع ‏ ‏أبا هريرة ‏ ‏رضي الله عنه ‏ ‏يقول ‏
    ‏سمعت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق ‏ ‏إن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش ‏
      

    ‏قوله ( حدثني محمد بن أبي غالب ) ‏
    ‏في رواية أبي ذر حدثنا وهو قومسي نزل بغداد , ويقال له الطيالسي وكان حافظا من أقران البخاري كما تقدم ذكره في باب الأخذ باليد من كتاب الاستئذان وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجة بالنسبة لحديث معتمر فإنه أخرج عنه الكثير بواسطة واحد فعنده في العلم والجهاد والدعوات والأشربة والصلح واللباس عدة أحاديث أخرجها مسدد عن معتمر , ودرجتين بالنسبة لحديث قتادة فإنه عنده الكثير من رواية شعبة عنه بواسطة واحد عن شعبة وقد سمع من محمد بن عبد الله الأنصاري والأنصاري سمع من سليمان التيمي ولكن لم يخرج البخاري هذه الترجمة في الجامع , و محمد بن إسماعيل شيخ محمد بن أبي غالب بصري يقال له ابن أبي سمينة بمهملة ونون وزن عظيمة من الطبقة الثالثة من شيوخ البخاري , وقد أخرج عنه في التاريخ بلا واسطة ولم أر عنه في الجامع شيئا إلا هذا الموضع , وقد سمع منه من حدث عن البخاري مثل صالح بن محمد الحافظ الملقب جزرة بفتح الجيم والزاي وموسى بن هارون وغيرهما .

    سبحان الحي الذي لا يموت

مشاهدة 15 مشاركة - 1 إلى 15 (من مجموع 23)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد