عجب من أمرِ مسلمِ قد رسم له الإسلام طريقاً قويماً لحياته ليسلكه وهو في مأمن من كافة جوانب الحياة، بحيث لو شق عبابها مع توطين القناعة في القلب لاستقرت حياته ولاطمأنت نفسه ولأراح باله من كل عناء وضيق، ولما اعتدى على غيره، وتجاوز على حقوقه، أو تسبب في الانتقاص من تلك الحقوق أو رتب عليها مظالم للآخرين دون وجه حق بطرق الغش والخداع، ومن ثم يرمي ببراء من أفعاله، وليس في ذلك هدف إلا إرضاء لنزعة أنانية شيطانية، وهفوات حب المال لأجل المصلحة الشخصية، وحماية هذه المصلحة بكل ما أوتي من قوة غير عابئ أن المسلك الذي سلكه هو مسلك خاطئ، قد يؤدي به في يوم الآخرة إلى الافلاس الحقيقي الذي أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام عنه في الحديث عن المفلس من أمتي قال عليه الصلاة والسلام: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال صلى الله عليه وسلم : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي وقد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا، وضرب هذا, فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته من قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) .. رواه مسلم. ومثل هذا المفلس يصدق عليه قول الله عز وجل (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) الغاشية (16) عندما يكون همه فقط تلك الدنيا فحسب، مع علمه أن الآخرة هي الأفضل والأبقى، إلا أنه لا يكترث من السعي وراء شهوات الدنيا واستطراد خطاه إلى حيث يشتهي، ضارباً ذلك عرض الحائط التعاليم الشرعية التي تقبع الشهوات وتروضها، فإن هذا المسلك هو أمر غير محمود في حقيقته. وعلى المسلم أن يجعل قول الله عز وجل (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) في نصب عينه بحيث لا يَظلم ولا يُظلم، وأن يكون هدفه منصب على بناء دار الاستقرار الأبدي خالداً فيها أبدا، مستغلاً كل سبل الخير إلا وقد ترك آثار أقدمه عليها، وكان الخليفة الصديق رضي الله عنه قد ضرب لنا أروع مثالاً في هذا الشأن، فعن‏ ‏أبي هريرة‏ رضي الله عنه ‏قال: ‏(قال: رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏، ‏من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال:‏ ‏أبو بكر ‏أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال:‏ ‏أبو بكر ‏أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال:‏ ‏أبو بكر ‏أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم ‏مريضا؟ ‏قال: ‏أبو بكر ‏أنا. فقال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم:‏ ‏ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة). ونحن في هذا الزمن الذي كثرت مغريات الدنيا وملذاتها، وأصبح المسلم بين مفترق الطرق وسط معمعة الزحام لا يعلم من أين يبدأ ومن أين ينتهي، إلا ما رحم ربي، ومن يدرك معنى هذه الآية الكريمة (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) حق الإدراك، فحري أنه لا يترك برهة إلا وقد أثراها في الخير ما يرقي ميزان حسناته وإثقاله بالخيرات وذلك إعمالاً بقول الله عز وجــل وإيماناً منه (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ).