الرئيسية منتديات مجلس الفقه والإيمان في صحبة الأنبياء

مشاهدة 15 مشاركة - 1 إلى 15 (من مجموع 27)
  • الكاتب
    المشاركات
  • #141315
    تجليآت
    مشارك

    في صحبة الأنبياء .. ـ صالح عليه السلام

    كتب:
    د / أحمد عبد الحميد عبد الحق*
    11/08/1431 الموافق 22/07/2010

    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد ..فقد عشنا في الحلقة السابقة في صحبة نبي الله هود ـ عليه السلام ـ ورأينا كيف انتهى الحال بالعصاة من قومه عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد في قوتها وجبروتها ، حيث أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم الريح التي ألقتهم جثثا هامدة في الشوارع والطرقات والمنازل ، كانت تبدو من ضخامتها كأنها أعجاز النخيل ، وبقيت مساكنهم وعمائرهم آية لمن خلفهم ، ولمن تسول لهم أنفسهم أن يغتروا بقوتهم وعتادهم كما اغتر هؤلاء ، واليوم بمشيئة الله سبحانه وتعالى نعيش مع نبي الله صالح ـ عليه السلام ـ الذي بُعِث إلى قومه ثمود الذين كانوا يسكنون بمنطقة الحِجر الممتدة من المدينة المنورة حتى منطقة الرملة بفلسطين ..ولم تكن المسافة الزمنية ولا المكانية بينهما ( أي بين عاد وثمود ) بعيدة ، ولكن إغواء الشيطان الذي امتلأ قلبه وذريته بالحقد على الإنسان والكيد له ؛ ثم اغترار الإنسان بما يؤتاه من قوة ، جعل قوم ثمود لا يتعظون بما حل بأسلافهم من قوم عاد ، وصاروا يتأملون في بيوتهم المنحوتة في الجبال  وهي في غايةٍ الحسن والمتانة والعظمة ؛ فيحسبون أنهم أوتوا ما لم يؤته أحد من قبلهم ، وأنه لا قوة في الكون ممكن أن تنال منهم وهم يقطنون تلك الحصون ، فكفروا وطغوا وبغوا ونسوا ما حل بـ عاد التي كانت أشد منهم قوة ..
    فبعث الله عز وجل إليهم صالحا ـ عليه السلام ـ لينبههم ويرشدهم ويحذرهم من مغبة ما هم عليه من كفر ونكران ، فجاء إليهم ونادهم بالنداء الذي نادى به كل الأنبياء قومهم وقال : يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف : 73]..ثم ذكرهم ـ عليه السلام ـ بنعم الله التي تستوجب عليهم أن يعبدوه وحده فقال : هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود : 61] .. ويبدو أنه ـ عليه السلام ـ كسائر الأنبياء قضى الجزء الأول من حياته قبل مبعثه مستقيما بعيدا عن الرذائل ؛ محبا للفضائل ؛ مساعدا للمحتاجين ؛ صادقا في تعامله معهم ؛ لا يقصر في إسداء الرأي والنصح لهم ، ولكنه لم يتعرض لسلوكياتهم ومعتقداتهم التي تغضب الله سبحانه وتعالى بنقد ، فرضوا بذلك منه ، ولم يعاتبه أحد من قومه على ذلك ، فلما أمر بتبليغ رسالة ربه ، وبدأ يأمر بالخير وينهى عن الشر ، رأى فيه أصحاب المصالح والشهوات والنزوات ( وهم المهيمنون على الأمور دائما ) خطرا عليهم فقالوا له : يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود : 62].. وهذه شهادة له تشبه شهادة أهل مكة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له : ما جربنا عليك كذبا ..
    ولكي يجدوا لأنفسهم ذريعة في عدم اتباعه رغم أنه كان مرجوا فيهم قبل ذلك  قالوا : أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا (62) [هود : 62]..إنه نفس الخطاب الذي استخدمه كل المجادلين مع أنبيائهم بداية من نوح وانتهاء بمحمد ـ صلى الله عليهم جميعا ـ وهو نفس الخطاب الذي يجابه به المعارضون الدعاة والمصلحين الآن ، مع تغير فقط في المفردات مثل : الخروج على الشرعية الدولية ، مجاوزة القانون ، قلب نظام الحكم ، وغيرها مما يُردد كل حين ..وكان رد صالح ـ عليه السلام ـ أنه لا يفعل ذلك من تلقاء نفسه ، ولا يدعوهم إلى الخير إلا امتثالا لأمر الله عز وجل الذي كلفه بأداء رسالة هو أمين في تبليغها ، فقال : إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء : 143 – 144]..
    وكما ذكرنا من قبل أن أول شيء يثيره المعاندون لدعوة الله سبحانه وتعالى هو موضوع المكاسب التي يهدف إلى تحقيقها الرسول من وراء دعوتهم ، وأنه يبغي … ويبغي ..فيجيء الرد الحاسم عليهم : وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء : 145] فهو وكل نبي قبله يقضون الليل والنهار في دعوتهم ، تاركين أعمالهم ومشاغلهم ، بل مضحين بأموالهم وبكل ما يملكون في سبيلها من أجل الله عز وجل ، وشفقة وحبا في قومهم ..والإنسان غالبا ما يلجأ إلى الجحود والنكران إذا اغتنى وكثر ماله وجاهه ، وأحس أنه لا يحتاج لأحد أو يخافه ، وهكذا كان حال قوم ثمود فذكرهم صالح ـ عليه السلام ـ بأن هذا الغنى الذي يعيشون فيه ، والرفاهية التي ينعمون بها ، لن تدوم معهم ، وإن دامت فلن يخلدوا لها ، ولابد أن تنزع منهم أو يُقبضوا هم ويتركونها ، فقال لهم : أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [الشعراء : 146 – 148] هذا لن يكون لهم ، وإلا فليتفكروا في حال عاد قبلهم وما حل بهم .
    ولكنهم أبوا أن يصدقوه وقالوا له : إِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود : 62] مع إن مساكن عاد التي لم تسكن بعدهم بادية للعيان ، وأخبارهم معروفة لديهم ؛ لا تحتاج لمن يقصها على مسامعهم .. وكأني بهم بعد أنا ردوا عليه بهذا التشكيك ذهب فريق منهم إليه في صورة الناصح ؛ ليذكره بحاله قبل أن يقوم بدعوة الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه كان مقبولا لدى الجميع لم يعتب عليه أحد في شيء ، وأنه ينبغي أن يعود إلى ما كان عليه ويترك دعوته ورسالته ، ويترك الناس وشأنهم ، وينشغل هو بنفسه ، وهو كلام قد يسمعه الكثيرون ممن يعملون في مجال الدعوة إلى الله في البلاد التي تحاد الله ورسوله ، فجاء رده ـ عليه السلام عليهم ـ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ   [هود : 63] أي بترك دعوته وتبليغ رسالته ؛ لأن ترك الدعوة إلى الله من أكبر المعاصي ، ثم رد على هؤلاء الذين يظهرون في صورة الناصحين له الخائفين عليه بقوله : فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ [هود : 63]..ولما كان أقرب الناس إليهم زمانا ومكانا كما قلنا هم قوم عاد فقد ذكرهم بمصيرهم وقال : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف : 74] فواجهوه بمثل ما واجه به السابقون أنبياءهم ، حيث كفر أكثرهم ، ولم يؤمن معه إلا قلة لم تكن تملك من المال والمتاع والجاه ما يجعلها تنشغل في التفكير في مآلها بعد الموت ، وصاروا ملازمين له متبعين لهديه ؛ لكن الغالبية الكافرة المشركة لم تتركهم وشأنهم ، وإنما صاروا يحتكون بهم ، ويضيقون عليهم ، ويشككونهم في صدق ما يدعوهم إليه نبي الله صالح ـ عليه السلام ـ كما قال الله عز وجل في قرآنه الكريم : قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ [الأعراف : 74]..
    وكان هؤلاء المستضعفون المؤمنون أكثرا أدبا مع نبيهم ، فلم يقولوا لهم : نعم إنا نعلم أنه مرسل من ربه ، وإنما قَالُوا : إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ [الأعراف : 75].. أي أنهم لم يؤمنوا بكونه رسولا من الله عز وجل فقط ، وإنما هم مؤمنون مصدقون بكل ما يقوله لهم ويعدهم به ، فمن الممكن أن نجد في دنيا البشر من يقولون : إنهم مؤمنون بالله وبرسوله ، ولكن إذا ما طُلب منهم الالتزام بما جاء به الرسول من عند ربه من أوامر ونواهي أعرضوا ، وهم صنف مريض رخو من البشر لا تبدو فيهم صلابة المؤمن في إيمانه ، ولا قساوة الكافر في كفره ، ولذلك قال عنهم المولى عز وجل : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة : 8 – 10]..
    المهم أن قوم ثمود لما رءوا الصلابة في إيمان من اتبع صالحا ـ عليه السلام ـ قالوا لهم :   إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف : 76] كأنهم يعاقبونهم بتلك الفعلة ..ثم اتجهوا إلى صالح ـ عليه السلام ـ وأخذوا يرمونه بالكذب تارة ، وبالسحر أخرى ، فقالوا له : إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء : 153] ويلِجّون في جداله ويقولون : مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا    [الشعراء : 154] أي ليس لك من الفضل ما يستوجب الطاعة لك  ..
    وهذا الجدال كان أكثره نابعا من المسرفين الطغاة المفسدين المستبدين منهم الذين يرون في إيمان عوام الناس ضياعا لمجدهم ، ولذا التفت صالح عليه السلام إلى العوام من قومه وقال : وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ [الشعراء : 151 – 152]..ولكنه لم يجد لهم آذانا صاغية ، وقد وقعوا تحت سيطرة سادتهم ، وأراد الجميع أن يعجزوه فقالوا : فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء : 154] .. فأتاهم الله بما طلبوا ، وأخرج لهم من بين الصخور الصماء ناقة ، وشاهدت أعينهم منظر خروجها المذهل ، والصخرة تتفتق لتخرج من بينها ، كما جاء على لسانه ـ عليه السلام ـ حيث قال : هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأعراف : 73] ..ثم جعل الله لهم في درها اللبن الوفير الذي يأخذ منه كل واحد حاجته دون أن ينضب ، فقال عز وجل على لسان صالح عليه السلام : هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء : 155] ..وكان هود ـ عليه السلام ـ كما جاء في الآية السابقة قد وزع مياه البئر بينهم وبينها ، بحيث يخلونه لها يوما ؛ كي لا تنفر منهم ومن دوابهم ، ويجعلون لهم يوما يأخذون منها ما يشاءون لهم ولدوابهم ، وسائر أنعامهم ..والنعمة التي أعطاها الله لهم في مقابل ذلك أن الماء الذي كانت تشربه كان يتحول كله بقدرة الخالق عز وجل إلى لبن في درها ، فتطوف على منازلهم ؛ فيحلب كل واحد منها ما يشاء حتى يستكفوا جميعا ..وأي نعم أسبغ من أن يحول الله عز وجل لهم الماء إلى لبن من خلال تلك الآية ، ثم توصله لهم إلى مداخل منازلهم ، دون أن تكلفهم عناء المجيء إلى مرقدها ؟!!!..ولكن ـ ويا للعجب ـ أصر الطغاة على أن يتخلصوا منها لا لشيء إلا ليمنعوا الناس من التفكر في قدرة الله وعظمته ( كلما رأوها )فترق قلوبهم للإيمان به ، ولا لشيء إلا ليمنعوا فضل صالح ـ عليه السلام ـ على المعدومين والفقراء منهم ..وتحدث بعضهم إلى بعض في هذا الأمر ( أمر التخلص منها ) حتى شاع الخبر ووصل لصالح ـ عليه السلام ـ فحذرهم من مغبة ذلك ، والعاقبة التي تحل بهم من الله عز وجل لو أقدموا على مثل هذا الفعل الشنيع ، وقال لهم : وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء : 156]..
    فأظهروا عدم مبالاتهم بما توعدهم به ، وتحدوه أن يأتيهم بعذاب الله ، فرد عليهم عليه السلام بقوله : يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل : 46]..ولكنهم لم يلتفتوا لقوله ، وإن ظلوا هيابين للأمر حتى خرج شرهم وأشقاهم فترصد بها حتى نحرها ، يقول الله عز وجل : إذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [الشمس : 13 ، 14]والإنسان غالبا ما يقدم على معصيته بتهور وتحت دفع وتحريض من الشيطان دون أن يتفكر في جزاء تلك المعصية ، وبعدها يندم ولا ينفع الندم ، وهذا ما حصل من قوم ثمود ، يقول الله تعالى : فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء : 157 ، 158] ..ولطالما تفكرت في حال المستبدين الذين تآمروا على المشاريع الخيرية وجمعيات العون والمساعدة التي كان يقدمها العاملون للإسلام ؛ حتى لا ينتشر خيرهم على البرية فيتبعوا دعوتهم ، ويؤمنون لهم ، وحال الطغاة من قوم صالح عليه السلام الذين تخلصوا من الناقة التي كانت تدر لهم هذا الحليب دون مقابل فعجبت من التشابه بينهم رغم بعد الزمان .
    ولم يبق شيء بعد اعتدائهم على آية الله سبحانه وتعالى غير أنه تحل عليهم نقمته ، ولذلك قال لهم صالح عليه السلام : تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي وبعدها سيأتيكم موعود الله الذي استعجلتم به ..وكانت تلك فرصة لهم ليراجعوا أنفسهم ويرجعوا لرشدهم قبل أن تنتهي المهلة المحددة لهم ، خاصة وأنهم يعلمون أن صالحا ـ عليه السلام ـ صادق في كل ما يحدث بهم ، ولكن ـ للأسف ـ استمرءوا المعصية ، وصاروا يحتكون به ـ عليه السلام ـ ومن آمن معه ، والصراع يشتد بينهم يوما بعد يوم ، ومن سنة الله سبحانه وتعالى أنه عندما يشتد الصراع بين الأنبياء وقومهم أو بين المصلحين وشعوبهم تكثر الكوارث ويحل البلاء ، كمؤشر على قرب مجيء الهلاك الأكبر ، وبدلا من أن يتوبوا لربهم يتهمون أنبياءهم بأنهم السبب فيما حل بهم ، وينظرون إليهم نظرة تشاؤم ، وقد فعل ذلك قوم ثمود عندما قالوا لصالح ـ عليه السلام ـ ومن آمن معه : اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي تشاءمنا بك وبهم ، فرد عليهم صالح ـ عليه السلام ـ بقوله : طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل : 47]أي تختبرون به..وبدلا من أن يسعوا لرفع البلاء الذي حل بهم ، ويصطلحون مع صالح ـ عليه السلام ـ ويتبعونه قبل أن تنتهي مدتهم كما قلت من قبل ظلوا على عصيانهم ، وتركوا شيطانهم يدبرون لقتله ، يقول عز وجل : وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل : 48 ، 49]
    ودبروا أمرهم وهم لا يخافون رب صالح وإنما يخافون من قومه ، ويا لتعاستهم : إنه من الممكن لهم أن ينجو من عقاب أهل صالح ـ عليه السلام ـ أو وليه بالقسم لهم أنهم ما ارتكبوا الجريمة ولا يعرفوا عنها شيئا ، فكيف برب صالح الذي تكفل بحفظه ورعايته وحمايته ؟!!وفي تعبير جميل يقارن الله عز وجل بين تدبيرهم لقتله وبين حمايته المتوفرة لصالح ـ عليه السلام ـ فيقول وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل : 50 ، 51]…هم دبروا ورتبوا وأعدوا أسلحتهم وهذا مكرهم والله عز وجل لم يدبر لهم سوى أنه أرسل عليهم رجفة أو صيحة من السماء صاروا بعد سماعها جاثمين في الأرض .. ووجه إليهم صالح ـ عليه السلام ـ آخر عتابه لهم قبيل فنائهم بقوله : يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف : 79] إنه لم يقصر في تبليغهم رسالة ربه ، ولا في نصحه لهم ، فليحموا جزاء إعراضهم .. وكما أبقى الله سبحانه وتعالى منازل عاد آية لمن بعدهم ، كذلك فعل مع ديار ثمود ، يقول عز وجل : فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل : 52] فهل من متعظ ؟!!..ولفظة خاوية تشير إلى أنها لن تسكن ولن تعمر بعدهم أبدا ، إذا صارت ملوثة موبوءة ، لا يصلح للحياة ماؤها ولا هواؤها ؛ حتى إن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لما مر بتلك المنازل في طريقه إلى غزوة تبوك أمر ألا يدخل عليها أحد من أصحابه ، وألا يقربوا ماءها ، ولما بلغه صلى الله عليه وسلم أن بعض الناس أخذوا من مياه بعض الآبار حول المكان وعجنوا به طعامهم نهاهم أن يأكلوا منه ، وأن يريقوا القدور التي وضعوا فيها ماء للطبخ ، لحكمة علمها صلى الله عليه وسلم ، ربما كانت ارتفاع الأشعة المضرة بتلك المنطقة ؛ وكان من كمال حرصه على صحة أصحابه أنه نهاهم عن التعمق داخل منازلهم قائلا : إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم مسند أحمد بن حنبل – (2 / 117)..
    والصيحة أو الرجفة التي حلت بهم كانت كفيلة بان تقضي على كل مظاهر الحياة ولكن الله سبحانه وتعالى كما أبقى من آمن مع هود في أمن وأمان من هول الريح الصرصر العاتية كذلك فعل بمن آمن معه صالح ، يقول عز وجل : وأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل : 53]..وقدرة الله سبحانه وتعالى تتجلى للمؤمن في كل شيء ، لكنها تكون أكثر تجليا في حفاظه على عباده المؤمنين سالمين آمين وسط الهلاك المدمر الذي يصب على الكافرين حولهم ، وهذا ما يجعلنا نتحرك على الأرض ونحن مطمئنون وكلنا ثقة به لا نخشى من تقلبات الدهر ولا عواقب الأمور ما دمنا موحدين له ..
    المصدر : موقع التاريخ

    #1500952
    تحيا مصر
    مشارك

    يسلمووو غاليتى شوق ع الطرح المفيد جدااااااااا

    ان شاء الله يكون متجدد بصحبه الانبياء رضى الله عنهم وارضاهم

    تـــــــــــــم تثبيتـــــــــه

    بارك الله فيكِ .. وجعله  الله فى ميزان حسناااتكــ

    #1501015
    تجليآت
    مشارك
    في صحبة الأنبياء ..  ـ نوح عليه السلام

    كتب:
    د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *16/05/1431 الموافق 29/04/2010

    اليوم بمشيئة الله سبحانه وتعالى نعيش مع نبي الله نوح عليه السلام الذي يعد من أولي العزم من الرسل ، فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى ، صباحا ومساء ، سرا وعلانية ، دون ملل أو ضجر..
    وكانت البشرية قد مضى على وجودها على الأرض عشرة قرون ، ظهر خلالها اللمم ( صغار الذنوب وهفواتها ) شيئا فشيئا ، وفي غفلة من المربين وتساهل منهم نمت تلك الصغائر حتى صارت كبائر ، ثم انتقلت تلك الكبائر بأهلها إلى طور الإشراك بالله وكفره وجحوده ، وعندها تداركها الله عز وجل بإرساله إليهم ، يقول الله سبحانه وتعالى : إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ..ولم يتمهل نوح ـ عليه السلام ـ بعد أن جاءه هذا التكليف الإلهي ، وإنما هب على الفور مستجيبا لأمر ربه ، وقال لهم : يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ وتلك مجمل الرسالة التي بعث بها كل الأنبياء عبادة الله وتقواه وطاعته إنها الوصفة التي ينصلح بها حال الناس جميعا ..وصار عليه السلام يسلك معهم مسلك العطف والشفقة عليهم تارة ، ويقول لهم : إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ وتارة يسلك معهم مسلك الترغيب بأن يبين لهم عاقبة الإيمان الحسنى في الدنيا ، ويقول لهم : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا وما ينتظرهم في الآخرة من المغفرة ، فيقول : يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وتارة يسلك معهم مسلك الإقناع العقلي ، ويقول لهم : مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا..وقد أثرت تلك الدعوة في قلوب بعض الناس الذين لم تغريهم الدنيا بمغرياتها ، ولم يغرقوا في شهواتها ، فآمنوا به واتبعوه ، ولكن الملأ من أصحاب السطوة والسلطان الذين أعماهم البطر عز عليهم ذلك ، وصاروا يقولون له مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ .. وقابل ذلك عليه السلام منهم بلطف وحلم ، وصار يذكرهم بأن الجاه والمال والسلطان الذي يتفاخرون به عليه وعلى من آمن معه لا بد أن يأتي عليه يوم ويزول ، وإن لم يزُل فإنهم سيموتون ويتركونه ، فقال : إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ..وكعادة المضلين في تاريخ البشرية سعى هؤلاء للتملص من الموضوع الذي يحاورهم فيه ، وهو موضوع عبادة الله ، وإشغاله بموضوع آخر لا علاقة له بقضية الإيمان ، فقالوا مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا مع إنه لم يقل لهم إن اصطفاء الله له بالرسالة قد أخرجه عن طور البشرية والتميز عليهم .. ولذلك لما رءوا هذا الطريق مسدودا عليهم ، وأنهم لن يستطيعوا أن يتخذوا ذلك وسيلة لصرفه عند دعوته عادوا إلى موضوع الفقراء الذين آمنوا معه مرة أخرى فقالوا : وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ واتخذوهم سببا لعدم اتباعه ، فقالوا : أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ولا عجب فقد أنساهم الشيطان الذي نشأهم على التكبر والاستعلاء أن الكل مأمورون بعبادة الله وطاعته ، سواء أكانوا فقراء أم أغنياء ؛ لذلك لم يملك نوح عليه السلام إلا أن قال لهم : وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ..إن مؤمن واحد ولو كانت رأسه رأس زبيبة خير من ملء الأرض من المشركين ، إنه يسبح الله ويقدسه ، أما هؤلاء المشركون فهم عبء على كون الله سبحانه وتعالى ، يتمتعون بخيراته التي بثها لهم في الأرض ثم يحرصون على معصيته ، ولذلك لم يملك نوح عليه السلام إلا أن قال : وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ..إن البشر دائما لا يقيسون أمورهم دائما إلا بالماديات ، وربما رمى الفسقة الكفرة منهم أتباع الأنبياء بأنهم ما آمنوا إلا طمعا في العطاء ، وربما كان ذلك منطق الذين كفروا برسالة نوح عليه السلام ، ولذلك رد عليهم بقوله : وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ أي لم يكن عنده من المال ما يغري به هؤلاء المؤمنين على اتباعه ..وكانت حالة نوح عليه السلام ظاهرة للعيان ، ولكن بدلا من أن يسلموا له بحجته عليهم قاموا على ما يبدو بالسخرية من أتباعه ، وقالوا : إنه يمنيهم بأنهم سيكونون ملوكا وعظماء في المستقبل ـ وهذا غير مستبعد على فضل الله ـ ولذلك رد نوح عليه السلام على هؤلاء بقوله : وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ..وفضل الله كما قلت ليس بعيدا على هؤلاء الفقراء المؤمنين ، وكما أغنى غيرهم فهو وحده قادر على أن يغنيهم ، وأن يورثهم الأرض في الدنيا والجنة في الآخرة ، ولذلك قال نوح عليه السلام للمترفين : وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ .. ثم رد على ادعائهم بأنهم ما آمنوا إلا طمعا في المال بقوله : وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ..إن بعض المترفين من أصحاب الأموال في كل عصر يحاولون أن يهيمنوا على الدعاة أو المصلحين بأموالهم ، وربما حاول بعض قوم نوح أن يفعلوا ذلك معه ، ولكنه قطع عليهم الطريق ، وأكد أنه لا يريد من دعوته غير الخير للجميع ، ولا يطلب أي مقابل تجاه هذا العمل الذي يستغرق كل وقته وجهده ، فقال : وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ..وما عطل مسار الدعوة الإسلامية في العصر الحديث رغم أن التقدم العلمي جعلها مهيأة أكثر من ذي قبل إلا لأن أكثر الدعاة المعاصرين لم يستطيعوا أن يتحلوا بمقولة نوح عليه السلام هذه ، ولم يستطيعوا أن يتغلبوا على حب الجاه والمال والمنصب الذي لا يتم إلا بالتنازل عن الكثير أمام السلطان ..ولأهمية تلك القضية كان نوح عليه السلام (وكل نبي بُعث بعده ) يختم كل نقاش مع المجادلين له بتذكيرهم بهذا الأمر ، ويقول : فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ ..وعندما تُتخذ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى حرفة للتكسب نرى من المنتسبين للدعوة والإصلاح من يرددون مواعظ لا ترقى لقلوبهم فضلا عن رقيها لقلوب باقي الناس ، وربما بالغوا في المواعظ بما لا يلزمون به أنفسهم ، ولكن نوح عليه السلام ( وكل نبي بعده كان مثالا للائتمار بأمر الله سبحانه وتعالى ، يلتزم بأمر ربه قبل أن يلزم به الآخرين ، وشعاره َأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ..يقول الطبري : وهذا وإن كان خبرًا من الله تعالى عن نوح، فإنه حثٌّ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على التأسّي به، وتعريفٌ منه سبيلَ الرشاد فيما قلَّده من الرسالة والبلاغ عنه .. وأنا أقول أيضا : هو حث لكل داع ومصلح .وبعد لقاءات وجلسات ونقاشات لا يعرف عددها إلا الله عز وجل قابل المعاندون نوحا عليه السلام بقولهم : يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ..إنه رد نسمعه من كل الجاحدين على مر التاريخ ، وإن اختلفت اللغات واللهجات التي يردد بها ، وكان الرد الطبيعي من نوح عليه السلام كنبي وُصف بأنه من أولي العزم من الرسل هو قوله : إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ..وربما كان هذا الرد منهم على سبيل السخرية أو على سبيل التحدي لما رءوا قوتهم وكثرتهم بالقياس إلى قوة نوح عليه السلام والفقراء الذين آمنوا معه ، لذلك قلب لهم المعادلة تماما بأن التحدي ليس معه ، أو ليس بينه وبينهم ، وإنما مع الله الذي بيده ملكوت كل شيء ، وهو يقوم وحده بتطبيق سننه عليهم التي تلحق بكل جبار عنيد ..ثم ذكرهم بأن عنادهم وعدم الإنصات لدعوته ليس دليل عظمة منهم كي يختالوا بها ، وإنما لأنهم بمعصيتهم لله هانوا عليه فلم يقدر لهم الهداية التي تجلب لهم النجاة في الدنيا والسعادة في الآخرة ، وأخذ يقول لهم : وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ..وتمضي القرون تتلوها قرون وهم على حالتهم تلك لا يتغيرون ، فما كان منه عليه السلام إلا أن رفع تقريره إلى الله عز وجل فقال : رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ..يقول المرحوم سيد قطب : هكذا سلك نوح أو حاول أن يسلك إلى آذان قومه وقلوبهم وعقولهم بشتى الأساليب ، ومتنوع الوسائل في دأب طويل ، وفي صبر جميل ، وفي جهد نبيل ، ألف سنة إلا خمسين عاماً . ثم عاد إلى ربه الذي أرسله إليهم ، يقدم حسابه ، ويبث شكواه ، في هذا البيان المفصل ، وفي هذه اللهجة المؤثرة . ومن هذا البيان الدقيق نطلع على تلك الصورة النبيلة من الصبر والجهد والمشقة ، وهي حلقة واحدة في سلسلة الرسالة السماوية لهذه البشرية الضالة العصية! فماذا كان بعد كل هذا البيان؟إنها حالة من الدعوة إلى الله لا يكاد يصبر عليها إلا قلة قليلة مثل نوح عليه السلام يقابلها حالة من العناد والإصرار على الكفر قلما تتكرر في التاريخ يضعها الله سبحانه وتعالى أمام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن يتبعون نهجه ؛ لتكون أمام أعينهم ، فإن ملوا من كثرة الدعوة تذكروا نوحا عليه السلام بقرونه الطويلة ، وإن ضاقت صدروهم بما يلقونه ممن يدعونهم إلى الله عز وجل تذكروا قوم نوح عليه السلام ، وعند ذلك سيحمد هؤلاء الدعاة عصرهم ، وسيعلمون أن حقل الدعوة إلى الله عز وجل الذي يعملون فيه هو أيسر بكثير مما كانت عليه العصور الخوالي ..ونعود إلى مصير قوم نوح فنقول : إن أشد ما يلحق بالإنسان المعاند أن يهون على الله فلا يجعل قلبه أهلا لأن يخشع ، ولا يجعل عقله أهلا لأن يتفكر في مصيره ، وإنما يضرب على قلبه وعقله وبصره ، ويجعل ناصيته بيد الشيطان يتحرك به كيفما يشاء ، ومثل هؤلاء لا يستحقون أن يأسى عليهم أحد ، ولذلك قال الله عز وجل : وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ..وما عليه بعد ذلك إلا أن يأخذ بأسباب نجاته هو ومن آمن معه ، فجاءه الأمر من الله سبحانه وتعالى : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ومن العجب العجاب أن هؤلاء البشر لم يجربوا من نوح عليه السلام خلال القرون الطويلة التي مكثها في دعوتهم إلى الله عز وجل غير الجدية ، وكان عليهم أن يهرعوا إليه وهم يرونه يصنع السفينة ليستغفر لهم ، ولكن كما قلت من قبل : إن عقولهم قد سلبت منهم بعد أن حقت عليهم كلمة الضلالة ، فصاروا يسخرون منه ومما يصنع ، يقول الله عز وجل : وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ فكان رده عليه السلام أن قال : إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ .. إنه تهديد من رجل ما جربوا عليه الكذب من قبل ، وما سمعوا منه هزل طوال معايشتهم له ، ولكنها القلوب التي طمست ، ولطالما تفكرت في حال هؤلاء وحال فرعون ـ عليه اللعنة وأمثاله إلى يوم الدين ـ وهو ينظر أمام البحر وقد انشق فلقتين ، وارتفع الماء جبلين عظيمين ، جبل عن اليمين ، وجبل عن الشمال ، وهما متماسكان في صورة تبهر الناظرين ، ولكنه لم يقف مشدوها عند هذا المنظر ، ولم يسأل نفسه لا هو ولا من معه كيف تم هذا ؟!!! فأيقنت بأن الهداية من الله وحده دون سواه ، وأن الإنسان لا يملك لنفسه الهداية إلا أن يشاء له ذلك .وبعد أن فرغ نوح عليه السلام من صنع السفينة طبقا للمواصفات التي وصفها الله سبحانه وتعالى له أمره عز وجل يشحن فيها كل احتياجاته ومستلزماته ، وما يحافظ به على استمرار سنة الحياة والتعمير في الأرض التي ستطهر ممن عليها وتبدأ عليها الحياة من جديد ، فقال عز وجل : حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ..ثم أمره بالصعود إليها هو ومن آمن معه في لحظة الصفر ( لحظة فوران التنور الذي كان آية على بدء موعود الله للكافرين ) فقال : ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا وبعد الفراغ من صعودهم إليها صدر إليه أمر آخر ليديم ارتباطه هو ومن معه به سبحانه وتعالى : فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ..وكانت السفينة عندما صعدوا إليه في مكان بري لا يقربه الماء ، وهذا ما كان يثير استغراب وسخرية المشركين فإذا بالسماء تنهمر ماء ، وإذا بالأرض تنفجر عيونا ، ويلتقي ماء السماء مع ماء الأرض ليحدثا طوفانا في الحال ، فانطلقت السفينة مبحرة ؛ حتى قال عنها المولى سبحانه وتعالى : وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ورغم ذلك بقي المشركون في غرورهم وسكرهم ؛ أما نوح عليه السلام فقدت بدت له الحقيقة ظاهرة ، فشاهد ابنه من بعيد والماء يزحف نحوه ، ربما كان يتلف يمينا ويسارا وهو مذعور يبحث له عن المخرج ، ولكنه يريد أن يكون بعيدا عن الله سبحانه وتعالى ؛ كحالة العصيان في عصرنا الذين ألمت بهم الكوارث والهموم ، ورغم ذلك لا يزالون بعيدين عن ربهم المغيث ، ويلتجئون إلى الشرق تارة والغرب أخرى يبحثون لهم عن حلول فلا يزدادون إلا رهقا ..أقول وجد نوح عليه السلام ابنه في هذا الموقف فتحرقت فيه عاطفة الأبوة ، وأخذ ينادي : يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ولكن الولد كان حاله كحال كثير من الشباب الذين جرفتهم رياح المعاصي ، وغدا كل واحد منهم كلما وجد النصح من أبويه أعرض عنهم ، وقابل نصيحتهم بالسخرية والاستهزاء ، بعد أن زين له رفقاء السوء المعصية وأقنعه بأن أباه يعيش في غير عصره ، لا يواكب تطورات المدنية .. فكان الرد غير المتعقل من ابن نوح : سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ والأب الحنون يصرخ : لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وقبل أن يكمل نوح عليه السلام كلامه حيث كان السياق ـ والله أعلم ـ يقضي أن يقول إلا من رحم الله ولكن زمان الإمهال قد فات ، يقول الله عز وجل : وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ..سبحانك ربي إن الإنسان قد يؤخر التوبة والإنابة إلى الله ، وهو لا يدري أن عجلة الزمان لا تسعفه والقدر لا يمهله ..وما هي إلا لحظات قليلة ، وهي اللحظات التي يستغرقها الغريق حتى تخرج روحه ، حتى عاد الكون إلى سيرته الأولى ، ولم تتعطل الحياة فيه أكثر من تلك اللحظات ، إذ صدر الأمر الإلهي : يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ كانت تلك اللحظات قصيرة جدا لدرجة أن نوحا عليه السلام لم يحسب أن ابنه قد هلك بعد فنادى ربه قائلا : رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ..إن كثيرا من الناس في الدنيا ينشغلون بأحسابهم وأنسابهم وقومياتهم وجنسياتهم ، وهي عند حلول القضاء لا تنفع شيئا ، ولن يجامل الله سبحانه وتعالى فيها أحدا ، ولو كان نوحا عليه السلام الذي قضى عشرة قرون وليس عشرة أعوام في القيام بأمره سبحانه وتعالى ، وكان الرد من الله عز وجل عليه : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ( أي الذين أمرتك بحملهم معك في السفينة ووعدتك بنجاتهم إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ .. والتعبير بالمصدر هنا (عَمَلٌ ) أحسب ـ والله أعلم بمراده ـ أنه جاء لكثرة ما كان يصدر عن هذا الولد من معصية ..والإنسان مطالب ألا يدافع عمن يختان أو يظلم نفسه ؛ كي لا تتبدل الحقائق ويشيع الفساد في الأرض ، ويضيع الحق ؛ لذلك جاء النهي من الله عز وجل لنوح عليه السلام ولكل من يأتي بعده : فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ .وجاءت الاستجابة الفورية من نوح عليه السلام لهذا النهي بقوله : قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فليت الذين ينحازون لأولادهم وأهليهم وأصحابهم ليس في طلب المغفرة لهم دون وجه حق وإنما ينحازون إليهم في تمليكهم ومنحهم ما ليس لهم من المال العام والخاص دون وجه حق يعون ذلك الدرس من موقف نوح عليه السلام من ابنه .وبعض أن غيض الماء وعادت الحياة إلى سالف عهدها ونظر نوح فوجد السفينة قد استقرت على جبل الجودي ، واليابسة تمتد من حولها شرقا وغربا شمالا وجنوبا أمره الله أن يخرج منها بمن معه من المؤمنين ليواصلوا رسالتهم في تعميرها ، فقال عز وجل : يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ..وأخيرا أقول : إذا كان الله سبحانه وتعالى قد أتى على كل ما فعله قوم نوح خلال عشرة قرون وطهر الأرض من رجسهم في لحظات معدودة فهو وحده قادر على أن يأتي على ما تسويه البشرية الآن وفي لحظات قليلة أيضا إذا أصر المترفون فيه على عنادهم ، وتنطبق عليهم سنة الله سبحانه وتعالى التي قررها في قوله : وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ..والحديث موصول إن شاء الله في صحبة باقي الأنبياء إن كان في العمر بقية

    #1501016
    تجليآت
    مشارك

    في صحبة الأنبياء .. ـ هود عليه السلام

    كتب:
    د / أحمد عبد الحميد عبد الحق*14/06/1431 الموافق 27/05/2010

    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد ..فقد عشنا في الحلقة السابقة في صحبة نبي الله نوح ـ عليه السلام ـ ورأينا كيف أنه ظل يدعو قومه إلى الله سبحانه وتعالى قرابة عشرة قرون ، وهو صابر محتسب على كل ما يلقاه منهم من عناد وسخرية واستهزاء وتهديد ، وكيف انتهى الأمر بإغراقهم وتطهير الأرض منهم ومن أرجاسهم ؛ حتى عادت محرابا للمؤمنين معه كما كانت عند بداية خلق الإنسان عليها .. وقُبِض نوح ـ عليه السلام ـ بعد أن أدى رسالته ، وترك الأرض عامرة بذريته وذرية من حمل معه في السفينة ، يعيشون في أرجائها ، ويأكلون من أرزاقها ، ويذكرون ربهم بالغدو والآصال ، ثم تباعد الزمن ، وتتابعت الذراري ، ومرة أخرى صار الشيطان يمارس عادته في إغوائهم ، وعام بعد عام وشهر بعد شهر ويوم بعد يوم بدأت ثمار إغوائه الخبيثة تظهر بين الناس ، وفي غفلة من المصلحين وتساهل من المربين ؛ حتى غدا الحال على ظهر الأرض شبيه بالحال التي سبقت مبعث نوح عليه السلام ، وظهر من الطغاة المفسدين جيل فاق في طغيانه جيل نوح عليه السلام ، وتمثل في قوم عاد الذين كانوا يسكنون في أرض الأحقاف جنوب شبه الجزيرة العربية، وفي شمال حضرموت.وزاد من طغيان هذا الجيل ما أوتيه من قوة ، وما أفاض الله به عليه من نعم ، وما شيده من مبان عظام ، تلك المباني التي فاقت في عظمة تشييدها ما أقامه السابقون لهم ، وما سيقيمه اللاحقون بهم ، حتى قال عنها المولى سبحانه وتعالى : الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [الفجر : 8] ..وصاروا يرددون : مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت : 15] وهو المعنى الذي طالما ردده الجبابرة على مر العصور  ..وبعد أن وصلوا إلى تلك الحالة بعث الله عز وجل إليهم هودا ـ عليه السلام ـ ليعيد من بقي في قلبه بقية من خير إلى الجادة ، أما من تحجر قلبه ، فتقام عليه الحجة ثم تحق عليه سنة الله سبحانه وتعالى ، فجاءهم بهذا النداء الرقيق اللطيف : يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف : 65] وهو النداء الذي نادى به كل نبي قومه..ومع إنه نداء تنسجم معه أصحاب الفطر السليمة إلا أنهم قابلوه بالعناد والنكران واختلاق الأعاذير، ورموه بالتهم التي يُرمى بها كل نبي أو رسول أو داع أو مصلح ، فكان رده الطبيعي لذلك هو قوله  : إنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ [هود : 50]..وكما ذكرنا في اللقاء السابق أن كل تفكير المعاندين والعصاة يدور حول المال والأمور المادية ، وأنهم يحسبون أن النبي أو الرسول يهدف من دعوته التكسب أو على الأقل يمكن إسكاته بالإغراء المالي ، ولذلك أسرع هود ـ وكما فعل نوح ـ عليهما معا السلام ـ من قبل بقطع هذا الطريق عليهم ، وقال في معرض حديثه لهم :    يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي [هود : 51] ..وكان عليهم أن يتفكروا بعد هذا الرد في الأمر الذي جعله ينشغل بدعوتهم وإصلاحهم صباح مساء ، ويضحي بوقته وجهده الذي كان يمكن أن يكسب به المال الوفير في مجتمع طغت عليه المادة ، وأن يعلموا أنه كان يطلب من وراء دعوتهم ما عند الله عز وجل ، وأنه كان يَكِنّ لهم في قلبه حبا وشفقة وعطفا جعله يكد ويتعب لهدايتهم وإسعادهم ، ولكن ذلك لم يصدر منهم ، ولذلك قال لهم متهكما : أفَلَا تَعْقِلُونَ .. وربما تصور قوم هود كما يتصور غيرهم أن في اتباعه مضيعة لعظمتهم وجاههم ، ولذلك حرص هود عليه السلام على أن يؤكد لهم خطأ هذا الظن ، وأعلمهم أن إيمانهم بالله سيكون فيه الخير لهم في الدنيا قبل الآخرة ، وسيضاعف لهم الرزق ، فقال وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود : 52].. وقد يعجب الماديون أو العلمانيون من الربط بين الاستغفار وبين سعة الرزق والقوة ، ولا يدرون أن الاستغفار سبب في رضا الله سبحانه وتعالى الذي يتبعه هطول الأمطار لتحيا به الأرض الجرداء ، كما أن الاستغفار يجلب للنفس البشرية الطمأنينة والسكون وراحة البال ، فإذا ما آوت إلى فراشها نامت النوم العميق الذي يجلب لها القوة عند يقظتها ، فتعاود نشاطها وهمتها ، أما عدم الاستغفار فيجعل الإنسان قلقا مضطربا ، قلما يستطيع أن يأخذ حظه من النوم إن آوى إلى فراشه في ليله، فيصبح مرهقا متعبا ..وهذه الأمور التي صارت من بدهيات العلم الحديث ربما كانت غائبة عن قوم هود ، فقالوا له : يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ .. فأتاهم ـ بوحي من الله ـ بالأدلة المقنعة على صدق ما قاله، ولكن تحجر عقولهم أبت عليهم أن يسمعوا له ، ويتعرفوا على أدلته ، وقالوا : وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ أي لن يصدقوا بتلك البراهين ، وأكدوا ذلك بقولهم : وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ …وهذه الردود المتوالية التي تؤكد أنهم لن يفكروا في اتباعه لم تجعله ـ عليه السلام ـ يكف عن دعوتهم في كل ناد يقابل فيه جمعهم ، لأنه كلف بدعوتهم من الله سبحانه وتعالى ، ولا يمكن أن يكف عن تلك الدعوة إلا بأمر منه عز وجل ؛ مما جعلهم يلجئون إلى السخرية والاستهزاء به ورميه بالجنون ، وأن هذا الجنون أصابه بسبب تجرؤه على آلهتهم فقالوا : إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ وقد فسر هذا الاتهام في آية أخرى وهي قول الله عز وجل : ..إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [الأعراف : 66]..وكان قصدهم من رميه بتلك التهمة أن يفت ذلك في عضده ، وتتزعزع نفسه من الداخل ، ولكن كان هذا محال معه ، وقد أعده الله سبحانه وتعالى ـ كما أعد سائر المرسلين ـ لمواجهة تلك المواقف ، ولذلك لم نره يُثار أو يُستفز عندما رموه بتلك التهمة ، وإنما بقي على حلمه ، ودافع عن نفسه بتؤدة قائلا :يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف 67].. وبعض الدعاة إذا توالت عليهم التهم الكاذبة انشغلوا بتفنيدها ، وتركوا عملهم ودعوتهم ، وجعلوا همهم فقط هو دفع التهم عن أنفسهم ، وبعضهم لا يبالون بما يثار عنهم ، ويتركون الشبهات تدور حولهم ؛ حتى يساء ظن الناس بهم ، ولكن هودا ـ عليه السلام ـ قام بنفي تهمة الجنون عنه ، كما رأينا في قوله : يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. ثم واصل دعوتهم إلى الله فقال : أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ..[الأعراف : 68]وأريد أن أشير هنا إلى أن كفر قوم عاد لم يكن يعني أنهم ينكرون وجود الله سبحانه وتعالى ، وإنما كان كفر جحود واستكبار على عبادته ، وإصرار على التجبر في الأرض والبطش والطغيان ؛ بدليل أنهم كانوا على معرفة تامة بما حدث لقوم نوح ـ عليه السلام ـ قبلهم ، وقد ذكرهم هود بذلك في قوله : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف : 68 ، 69] ..كما أنهم كانوا على علم تام بوجود الملائكة المقربين ، واتخذوا معرفتهم طريقا للتحدي ، كما جاء في قول الله سبحانه وتعالى على لسانهم : إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت : 14].. وهذا يرشدنا إلى أن الطغاة البغاة الذين يسعون في الأرض فسادا ويزعمون إنهم يعرفون الله لا حظ لهم في الإيمان ، ولن يغني عنهم إقرارهم بوجود الله شيئا ما داموا لم يؤمنوا بآياته ويتبعوا أوامره ويلتزموا بأحكامه..ثم توالت لقاءات هود ـ عليه السلام ـ بقومه وهو يدعوهم إلى ربهم ويقول : إني لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء : 107 – 109]وأنوه هنا أيضا إلى أن هودا ـ عليه السلام ـ قد ركز في دعوته لقومه على محاربة المعاصي والآثام التي كانت متفشية فيهم ؛ تماما كالطبيب الذي يركز مع مريضه على معالجة المرض الذي ألم به فقط ، وهو ملم بكل الأمراض وعالجها .. فلقد وقف ـ عليه السلام ـ يناقش قومه في أمر التعالي في البنيان الذي انشغلوا به عن الدار الآخرة فقال : أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ ( قصورا ) لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ .. [الشعراء : 128 ، 129]..كما ناقش معهم قضية التجبر في الأرض والبطش بالضعفاء بعد أن نسوا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ، وقادر على الانتصار للضعفاء منهم ، وعلى سلب نعمة القوة والغنى والرفاهية التي وهبها لهم ، فقال :   وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ  فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء : 130 – 134]..وانتقل أمر قوم عاد بعد ذلك من طور الجدال والنقاش مع هود ـ عليه السلام ـ إلى طور التهديد الذي يلجأ إليه كل المعاندين على مر التاريخ ، وهو الأمر الذي يكون إيذانا بقرب حلول غضب الله عليهم ، فأعلنوا على الملأ تهديهم بقتله إن لم يكف عن دعوتهم ، ولكنه ـ عليه السلام ـ لم يعبأ بذلك ، وقال لهم متحديا : فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ وهو المعنى الذي ردده نوح ـ عليه السلام ـ من قبل حين وضُع في مثل موقفه ، حيث قال : فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ   .. ولم ينس ـ عليه السلام ـ أن يبين لهم السبب الذي من أجله هو غير عابئ بهم وبتهديداتهم وبجمعهم ؛ حتى لا يضطرب المؤمنون حوله ، فقال :   إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .. [هود : 56]..هو متوكل على الله ، والله بيده نواصي العباد ، وبالتالي لن يصل لمن توكل عليه أي مكروه ، وفي نفس الوقت لن يستطيع أحد من هؤلاء ـ وهم جميعا ـ ناصيتهم بأمر الله عز وجل أن يفعلوا شيئا دون إرادته  ..استقر هذا المعنى في ذهن هود ـ عليه السلام ـ ويجب أن يستقر في ذهن كل داع إذا ما جوبه بمثل هذا التهديد ، وهذا المعنى ينبغي أن يرسخ أيضا في قلب كل مسلم متمسك بحبل الله ، وليعلم أنه إذا كان التهديد الذي صدر من عاد التي لم يُخلق مثلها في البلاد لم يؤثر في هود عليه السلام ، فكذلك كل تهديد يصدر عن غيرهم  لن يضره في شيء مهما كانت قوة من يصدر عنه هذه التهديد إلا أن يشاء الله . وبعد ذلك لم يقف ـ عليه السلام ـ طويلا عند أمر تهديهم لهم ، ولم ينشغل به ، وإنما كل ما شغله هو التفكير في مصيرهم إن بقوا على ضلالتهم ، حيث سيحل عليهم لا محالة سنة الله التي وعد بها العصاة ، وعليهم بعد ذلك أن يتحملوا نتيجة عنادهم ، فقال : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57).. [هود : 57]..وإنه حتى هذا اللحظة ما زال  يخاف عليهم ، فهم أهله وقومه ، فقال : إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء : 135] ..ولكن بعد هذا المشوار الدعوي الطويل معهم :   قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء : 136 ، 138]..ولا عجب أن يخرج من أفواههم هذا الرد ، فالنفس البشرية التي خلقها الله من طين إذا خالطها الشيطان المخلوق من نار كانت كقطعة الطوب النيء ( اللبنة ) إذا وضعت في النار صارت غير صالحة للإنبات ولا حتى لتشرب بالماء .ومن شدة إغراء الشيطان لهم صاروا يُدفعون وتحت ضغط الغيظ منهم على تحديه بأن يطلب من ربه أن يحل بهم العذاب الذي وعدهم به إن هم لم يؤمنوا به فقالوا : فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ .. [الأحقاف : 22]..وهو كنبي مرسل مكلف فقط بأن يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى لا أن يطلب من الله أن يحل عليهم غضبه ؛ ولذا قال لهم : إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ [الأحقاف : 23]..ولكن رده هذا لم ينفِ معرفته بالمآل الذي ينتظرهم ، ففي آية سورة الأعراف أنهم قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فرد عليهم بقوله :   قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [الأعراف : 70 ، 71]..ولم يطل هذا الانتظار الذي وعدهم به ، فما هي إلا أوقات معدودة حتى جاءهم وعد الله ، وإذا كان الناس قد تعارفوا على أن القوي يجابه بمثل قوته ، إلا أن إرادة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن يُباد هؤلاء بأضعف جنود الأرض ، فلم يسلط الله عليهم سوى ريح يلمسها الناس في معاشهم دون أن يجدوا لها خطرا ، وكل ما حصل هو مضاعفة سرعة تلك الريح لتخرج عن السنن الطبيعية ، يقول الله عز وجل : وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [فصلت : 14 – 16]ولما كان هؤلاء كما قلنا من قبل تقوم حياتهم على المقاييس المادية ، فقد احتقروا هذا السلاح الذي سيبادون به أولا عند مشاهدته ، وقالوا لهود ـ عليه السلام ـ الذي كان يتوعدهم : هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا يعني ليس فيه العذاب كما تتهددنا ، فكان رده عليهم : بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف : 24]…ومن لا يقابل نعمة الله التي تستوجب الشكر بالجحود والنكران لا بد أن يأتي عليه يوم ويقلب له الله سبحانه وتعالى تلك النعمة فيجعلها نقمة ، وهذا واضح للعيان في تلك الرياح التي اعتاد الناس أن يروا فيها المطر والخير ، إذ صارت تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف : 25].. ورغم أن هذا الوصف للريح كفيل ببث الرعب في قلوب من يسمع به إلا أن الله سبحانه وتعالى قدم لها أكثر من وصف ، وفي سور متعددة ؛ لتتحقق الغاية من ذكره ، ففي سورة أخرى : مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات : 42] وفي سورة ثالثة : وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة : 6 – 8] وفي سورة رابعة : إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 18 – 21]..وقد جعلت تلك الريح من هؤلاء الذين كانوا يقولون : من أشد منا قوة جثثا ملقاة على الطرقات تبدو على عظمتها كجزوع النخيل بعد اجتثاثها ، يقول الله عز وجل : فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة : 7 ] ..وهو منظر يوحي بعظم أجسادهم وقوتهم من جانب ، ومن جانب أخرى مدى ما لحق بهم ؛ ليقارن القارئ للآية الكريمة بين الحالتين ويتعظ منهما ..وكم يزداد إيمان الإنسان بربه عندما يرى أنه في وسط هذا الهول الذي حل بمجيء تلك الريح السموم بقي هود ـ عليه السلام ـ ومن معه هادئين سالمين ، لم يمسهم أي كرب أو مكروه ، يقول الله عز وجل : وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [هود : 58]..وهذه الريح التي أتت على قوم عاد كلهم ، وتركت أجسادهم متناثرة في الطرقات والمنازل والمفاوز كانت كفيلة أن تدمر بنيانهم وتقتلع قصورهم ؛ ولكن الله سبحانه وتعالى أبقى منازلهم وما شيدوه كما هي لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى ، قد تكون من أجل أن تبقى ذكرى أمام مشاهد من تسول لهم أنفسهم التفاخر بقوتهم وعظمتهم ، ومن لا يعتبر فمصيرهم في انتظاره ، يقول الله سبحانه وتعالى : فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف : 25]..ولذلك جاء الخطاب لأهل مكة الذين كانوا لا يزالون على طغيانهم : وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأحقاف : 26]..ولو كان هذا الهلاك الذي لحق بهم هو عقاب طغيانهم لكفى ، ولكنه مقدمة لعذاب الهوان الدائم في الآخرة ، يقول الله سبحانه وتعالى : وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ (60) [هود : 60]..وبقي أن نقول في الختام : إن المنطقة التي كانوا يقطننها هؤلاء الجبابرة من قوم عاد صارت  خرابا إلى الآن ، لا أنيس فيها ولا ديار ، ولا يرى فيها غير الرمال القاحلة، وهي المسماة بالربع الخالي ؛ لتكون شاهدة على مدى ما يحدثه شؤم المعصية ليس على من ارتكبوها فقط ، وإنما على الطبيعة من حولهم ، وعلى على البيئة التي كانوا يعيشون فيها ..

    #1501031

    غايه في الرووووووووعه

    #1501237
    جُـزيتي خيرأ ،وباركـ الرحمـن فيكـِ

    #1501263
    OtmanGX
    مشارك
    شكرا على الموضوع الرائع،فعلا إنه يستحق التثبيت .

    #1501264
    OtmanGX
    مشارك

    فقد أضفته إلى قائمة متابعتي ،وأرجو أن تجددي فيه باستمرار

    تحياتي

    #1501281
    تجليآت
    مشارك

    وبارك فيكِ اختي الكريمة رحيق
    امير ـ سامي المعاني قراءه طيبة ان شاء الله

    اخي
    OtmanGX  اضفت اليوم عن نبي الله نوح عليه السلام وادرجته في الرد الذي يسبق الحديث عن هود عليه السلام .. لانِ كنت اقرأها من غير ترتيب

    ولم افكر في وضعها متتابعه فلم اراعي التسلسل في ذلك فاعذرونا

    بارك الله فيكم

    #1501295
    عليهم الصلاة والسلام جميعاً
    تسلمي غاليتي شوق على الطرح القيم
    وبانتظار سلسلة حياة باقي الانبياء رضوان الله عليهم
    تقبلي ارق تحياتي

    #1501613
    تحيا مصر
    مشارك

    يسلموووو غاليتى شوق ع الاضافه فى صحبه الانبياااء

    بجد استمتعت بالقراءه جداااا

    جعله الله فى ميزان حسناتك

    بارك الله فيك

    #1502055
    تجليآت
    مشارك
    في صحبة الأنبياء ـ إدريس عليه السلام

    كتب:
    بقلم / د / أحمد عبد الحميد عبد الحق*
    19/03/1431 الموافق 04/03/2010

    في هذه الحلقة نتحدث عن نبي الله إدريس ـ عليه السلام ـ الذي جاء ذكره في قول الله عز وجل وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (1) ..
    وقد اختلف العلماء في تحديد الزمان والمكان الذي بُعث فيه ، وهل كان أول الأنبياء بعد آدم ـ عليه السلام ـ أم سبقه نوح ـ عليه وسائر الأنبياء الصلاة والسلام ، وهذا لا يعنينا في شيء ، ولن يترتب على معرفة أيهما أسبق كبير فائدة ، فالمسلم مطالب بألا يبحث فيما لا يعود عليه أو على البشرية بالنفع في الدنيا أو الآخرة ، وإنما يعنيا من قصة هذا النبي الصالح أن نقف عند قول الله  سبحانه وتعالى عنه : ورفعناه مكانا عليا وأن نتدبر في العمل الذي جعله ينال هذه المنزلة ، ويصل به لتلك الرفعة ؛ كي نسعى للفوز بمثل منزلته ، وأن نرقى بأنفسنا كما رقى هو ـ عليه السلام ـ وهو السبب الذي من أجله أمر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يذكره ويذكرنا به فقال في محكم آياته : واذكر في الكتاب إدريس .
    وأما عن الأمر الذي أوصله لتلك المنزلة العليا التي رفعه الله إليها فهو كونه صديقا نبيا وبالطبع فإن موضوع النبوة اصطفاء إلهي لا اختيار للبشر فيه ، وقد انتهى هذا الاصطفاء وخُتم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان جانب التأسي فيها له صلى الله عليه وسلم دوننا ..
    وأما الصفة الأخرى الصدق فهي مجال تأسينا ـ نحن ـ به ، فعلينا أن نتحرى في التخلق بها ؛ حتى نرقى إلى ما نصبو إليه عند الله عز وجل ، مصداقا لقول رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا.. ( 2) .. وفي صحيح مسلم : حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا (3) ..
    ولنعلم أن الصدق قبل أن يرفع من مكانة العبد في الآخرة فإنه يكون نجاة له في الدنيا ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : تحروا الصدق وإن رأيتم أن فيه الهلكة ، فإن فيه النجاة ، واجتنبوا الكذب وإن رأيتم أن فيه النجاة ، فإن فيه الهلكة (4) ..
    وجاء في صحيح البخاري عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أَن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : « بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ ، فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ لاَ يُنْجِيكُمْ إِلاَّ الصِّدْقُ ، فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ ، فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لي أَجِيرٌ عَمِلَ لي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ ، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ ، وَأَنِّى عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ ، فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا ، وَأَنَّهُ أتاني يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ : اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ ، فَسُقْهَا ، فَقَالَ لي إِنَّمَا لي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ ، فَقُلْتُ لَهُ : اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ ، فَسَاقَهَا ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا ، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ ، فَقَالَ الآخَرُ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ ، فَكُنْتُ آتِيهِمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لي ، فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِمَا لَيْلَةً فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا وأهلي وَعِيَالِى يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجُوعِ ، فَكُنْتُ لاَ أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَاىَ ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا ، فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا ، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ ، فَفَرِّجْ عَنَّا ، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ ، حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ ، فَقَالَ الآخَرُ : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ ، وَأَنِّى رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلاَّ أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ ، فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ ، فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا ، فَأَمْكَنَتْنِى مِنْ نَفْسِهَا ، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا ، فَقَالَتِ : اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا » ( 5) ..
    وقد جاء في بعض الآثار أن إدريس عليه السلام هو أول من خط بالقلم (6) وأنه سمي إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى ( 7) .. وقد يكون ذلك من أسباب رفعة مكانته أيضا ، وقد جاء في القرآن الكريم : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ … (8) وجاء في الأثر لو وزن مداد العلماء ودم الشهداء لرجح مداد العلماء على دم الشهداء .( 9) ..
    وفي بعض الأخبار أنه ( إدريس عليه السلام ) كان يجتهد في العبادة والطاعة حتى كان يرفع عنه كل يوم مثل جميع عمل بني آدم – لعله من أهل زمانه – وأنه طمع في أن يزداد عملا ، فأتاه خليل له من الملائكة فقال له : إن الله أوحي لي كذا وكذا ( يقصد عبارة : إني أرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بني آدم ) فكلم ملك الموت حتى أزداد عملا ، فحمله هذا الملك بين جنياحيه ، ثم صعد به إلى السماء ، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدرا ، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس فقال : وأين إدريس ؟ قال هو ذا على ظهري فقال ملك الموت : يا للعجب بعثت وقيل لي : اقبض روح إدريس في السماء الرابعة ، فجعلت أقول : كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض ؟ ( 10) فقبض روحه هناك ..
    وقد حاول بعض المفسرين أن يستأنس لتلك الرواية بما جاء في صحيح البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به في السماء الرابعة ، ولكن لا رابط بين الخبر وما جاء في البخاري ومسلم ، لأن الحديث الصحيح يذكر أنه مر في السموات العلى بأنبياء غير إدريس عليه السلام ، مثل إبراهيم وهارون وموسى عيسى ، وهؤلاء جميعا قبضت أرواحهم على الأرض ..
    كما أن المقصود من قول الله عز وجل : ورفعناه مكانا عليا ليس الرفع المادي وإنما الرفع المعنوي ، رفع المكانة عنده سبحانه وتعالى وليس رفع الجسد على غرار ما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم الذي رفع الله ذكره في العالمين وقال له : ورفعنا لك ذكرك .
    وقد أورد المفسرون كثيرا من الروايات التي تفسر هذا العلو بقولهم : إن ملكا رفعه إلى السماء بناء على طلبه ، ووضعه عند مطلع الشمس، أو أنه طلب الصعود إلى السماء فصعد به ملك ، ولما حضر أجله قال لملك الموت لما جاءه : إن لي إليك حاجة أخرى ، قال: وما هي ؟ قال : أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار، فأذن الله تعالى له في رفعه إلى السموات، فرأى النار فصعق، فلما أفاق قال أرني الجنة، فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود إلى مقرك ، فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها.
    فبعث الله تعالى بينهما ملكا حكما، فقال مالك لا تخرج ؟ قال: لان الله تعالى قال: كل نفس ذائقة الموت وأنا ذقته، وقال: وإن منكم إلا واردها وقد وردتها، وقال: وما هم منها بمخرجين فكيف أخرج ؟ قال الله تبارك وتعالى لملك الموت: بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج فهو حي هنالك (11).
    ومثل تلك الأخبار منسوبة إلى أناس من الصحابة والتابعين مثل : عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وكعب الأحبار ووهب ببن منبه ، ولكن لا ندري من أين وصلهم هذا الكلام الذي لا أصل له في الكتاب أو السنة ، ولذا ينبغي ألا نعول عليه، ويكفينا ما صح لنتأسى ونعمل به ، وأن يحرص كل منا على أن يكون صديقا مثل إدريس عليه السلام .
    وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله .

    ـــــــــــــــــــــــ

    الهوامش : *مدير موقع التاريخ الالكتروني1 ـ سورة مريم   : 56 ، 572 ـ صحيح البخاري  : 20 / 2473 ـ صحيح مسلم  : 17 / 35.4 ـ السيوطي : جامع الأحاديث41 / 3195 ـ صحيح البخاري  : 12 / 1816 ـ صحيح ابن حبان :2 / 76..7ـ تفسير القرطبي 11 / 1088ـ سورة المجادلة : 119 ـ الجامع الكبير للسيوطي : 1 / 1706210 ـ البداية والنهاية 1 / 11211 ـ تفسير القرطبي :11 / 119

    #1502691

    جهد كبير يستحق التقدير والسكر

    #1502878
    أختي الغالية شوق المبدعة …

    رائع ما طرحتِ

    جزاكِ ربي الجنان

    ولا زالنا ننتظر منكِ المزيد

    #1506310
    تجليآت
    مشارك
    وجزاكِم كل خير رحيق ـ وسام ـ ضوء المضيق
    لدي مشكله حين ادراج الرد اذا كانت الاسطر اكثر من سطرين  لا يستجيب لـ التنفيذ لا اعلم لماذا ؟

مشاهدة 15 مشاركة - 1 إلى 15 (من مجموع 27)
  • يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.

يستخدم موقع مجالسنا ملفات تعريف الارتباط الكوكيز لتحسين تجربتك في التصفح. سنفترض أنك موافق على هذا الإجراء، وفي حالة إنك لا ترغب في الوصول إلى تلك البيانات ، يمكنك إلغاء الاشتراك وترك الموقع فوراً . موافق إقرأ المزيد