اجمع اوراقك المبعثرة اخي القارئ واتبعني …. اهو الشتات الثقافي ام النكوص …؟؟

كثيراً ما تلحُّ عليَّ أسئلة محددة : ترى هل استطعنا أن نكوِّن الصورة الثقافية بعناصرها الأساسية ؟!

هل استطاع مثقفونا أن يعبروا عن واقعهم ، ويتواصلوا مع تاريخ بلدهم ؟!

وهل وجدت كتاباتهم / رسوماتهم / صورهم ذلك الصدى ( الثقافي ) في المجتمع ؟!

وإلى أي حدٍّ وصلنا في إكمال الصورة الثقافية ( لا يغيب عن البال أننا رسمنا أكبر لوحة لندخل بها في كتاب جينيس للأرقام القياسية ) ؟!!

أين هو المجتمع من تقييمه لتجاربهم ؟!

وأين هم أثرياء البلد من إبداعات أبناءه ؟!

قرأت منذ فترة حواراً مع تشكيليين معروفين بإسهاماتهم وتجاربهم الفنية الجميلة ،

وكان أبرز كليشهات الحوار معهم موجز موجع ” أن لوحاتهم لا تشترى !! ” لنقل بتعبير أفضل فنياً أنها ” لا تقتنى ” وقبلها قرأت حواراً لقاص قال فيه ” أن القصة لدينا في أزمة ” وعلى فكرة فإن كلمة ” الأزمة ” تروق لكثيرين من الكتاب !! ..

وهناك بالطبع من سيسأل ماذا تعني بالنكوص الثقافي ..؟! فأقول له بكل بساطة عدم القدرة على تعميق التجربة الإبداعية ، وعدم القدرة على تحديد الظرف التاريخي من خلال ما يسمى ” بالأنا العليا ” أو ما نسميه نحن بالضمير ، أي أن تكون لدينا ” مجسَّات ” دقيقة تستطيع أن تستقرأ الحوادث ، وتقرر المواقف ، وتعين الإتجاه ..

وحين يتواجد بيننا معلمٌ لأجيال عندما يسأل عن المرحلة التي يدرسها يستحي بالإجابة لأنه يدرس المرحلة الإبتدائية !! فذلك مسكين مهزوم في نفسه ومغشوش به المجتمع ، وحين يتواجد مدرس آخر يسأل عن كيفية سير التدريس معه فيجيب : ” مشي حالك ” ، وحين يتواجد بيننا المدرس الذي يقول لتلميذه في أحد معسكرات العمل المسائية في المدرسة ” حضر الشيشة “!! فهؤلاء يقول للثقافة ما كان يقوله الأتراك في العهد المملوكي لجامع الضرائب ” طــز يا عاشور ” أي ملح يا عاشور ..!!

وحينما تغادر القطع الأثرية من مقتنيات الناس التاريخية عبر عملية البيع والشراء القانوني المنظم إلى الخارج دون أن تتدخل أية جهة في منعها لأنها تخص تاريخ البلد وحضارته ، فإن المشاركين في هذه العملية هم جزء من ممارسي النكوص الثقافي !! كما نراه الان في العراق الشقيق.

أما حينما أصبحت نظرتنا للتراث نظرة فرجة محصورة في كون المعروض قديماً أو بالأحرى شاذاً فحسب ، لا يربطنا به تاريخ لأننا بكل بساطة لا نكلف أنفسنا عناء السؤال عنه أو لأن العارض لا يعرف تاريخه فذلك النكوص الثقافي !

الآباء هم أيضاً يلعبون أدواراً في مسرحية النكوص الثقافي حين تصبح أصواتهم فوق صوت الأبناء ولا يريدون أن يعترفوا كما قال ” إلفريد سوفي ” أن عليهم أيضاً واجب الإعتراف بالجميل إزاء أبنائهم الذين يطيلون حياتهم نحو المستقبل ، لكي لا يتحولوا إلى ثمرات جافة ” !!

أو هي ذاتها ثقافة ذلك الذي كنت بجانبه في معرض للكتاب يقطع نفسه تقطيعاً لجدال صاحب مكتبة لقاء أن ينـزل نصف ريال من سعر كتاب يريد شراؤه ! ..

وحين يدفع المواطن كما يدفع الأجنبي نفس الرسوم لدخول قلعة ترمز إلى تاريخه أو حصن فتلك عملية تحتاج إلى وقفة عميقة .. !

أخبرني صديق أن رب أسرة مكونة من ثلاثة عشر فرداً كانت على وشك الدخول لقلعة معروفة وكان الأب في قمة فخره بتراثه أمام أبناءه إذ كان يشرح لهم تاريخ القلعة وبانيها حتى فاجأه ( الحارس أو المحاسب) بطلب النصف ريال عن كل فرد ، حينها اكفهر وجهه وشعر بالإحباط الشديد أمام أبنائه إذ لم يكن يملك ما يمكن أن يدفعه من رسوم عن جميعهم ،

بل لم يشعر بالرضى من ذلك حتى يدفع تلك الرسوم ( العالية ) للمواطن .. !!

وأفهم شخصياً أنه يجب دفع رسوم ( كما يحدث في مواقف المدينة ) ولكنني لا أتفهم أن تكون بهذه الكلفة للمواطن .. دعونا ننظر إلى القيمة الثقافية التي يجنيها الوطن من خلال هذه الرموز التراثية إذ هي تعدُّ عمقاً حضارياً تحرض الإنسان ليس على التذكر وإنما على التواصل مع ماضيه التليد ، القضية لا يمكن أن يشملها التخصيص بمفهومه المادي ، لأنه جزء من مقدرات الحضارة ، وعناصر التراث الأصيل .. نظرت لها من هذا المنطلق لذلك رأيت عدم المغالاة فيها !!

الفن هنا لا يشترى ، ولا يقتنيه الناس للأسف .. والصور واللوحات التشكيلية لا ينظر لها طوال أيام عرضها دون أن نشاهد عبارة ” محجوزة ” عليها إلا اللمم ، لربما تخضع ” للمزابنة ” !! ولذلك يلجأ معظم فنانينا إلى عرض لوحاتهم في الخارج لتحقيق هدفين : الأول : تعريفي بالحركة التشكيلية ، والثاني : ربحي ، للمساعدة في لقمة العيش .. إنها ثقافة ” البرتقالة ” والتفاحة … والباذنجانة ….ونانسي عجرم … و روبي … ، وربما مستقبلا ً ” السبايسي جيرلز ” ..!!

وأنا أسأل هل حدث وأن تبرع أحد الأثرياء بمال من أجل جمعية للفنون التشكيلية أو من أجل رسام أعجبته لوحاته فأراد مكافأته وتحفيزه ، أو شاعر معجب بكلماته ؟! هل حدث أن تبرع ثري بمال من أجل تبني جهود للنادي العلمي ، أو للبحث العلمي..!!

هل تبرع أحد التجار في يومٍ من الأيام لفرقة مسرحية أو لجمعية تهتم بالتراث أو الفلوكلور ، أو عرض ممتلكاته الشخصية بجعلها متحفاً للشعب ؟!!

إننا ونحن نجتهد في حقول التطوع الفني والاجتماعي لنجد بأنفسنا أن هذا منال يكاد يكون حصوله مستحيلاً .. ! وكأنما الدوائر الثقافية محرم عليها مال المحسنين .. أو لأن الأجر غير محسوب فيها !!

إن هؤلاء لو أمدوا الثقافة بسخاء أموالهم لانتعشت أوصالها ، لو سمع أحدهم عن معارض أو ندوات وكثير ما يحضرها في افتتاحها الرسمي أصحاب أموال ، أقول لو سمع وجال في المعرض أو شارك في الندوة..فتبرع لهؤلاء الشباب الذين يعكسون مرايا الثقافة ويحاولون أن يخرجوا زهر اللوتس من بين ثنايا الأرض .. ليكن تبرعه مقابل شراء لوحات .. كم تراه ثمن اللوحة لدينا ؟! أو مقابل اقتناء كتاب أو صورة أو مجسد .. كم تراه الأثر النفسي الذي سيتركه في المبدع ؟!

إنها دعوة الإلتفات إلى أهمية إنتشال الثقافة من الشتات ، لتحضنها بوتقة واحدة ، بوتقة الوطن الذي نهواه يقيناً حتى النخاع .

ولا تزال اوراقي مبعثرة … وسوف اجمعها …..ورقة ورقة ….

ولن اقول لها طــــــز اي ملح …. مثل العثمانيين .

سلام .

حارس